حلق الذكر هي رياض الجنة

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا حديث شريف رواه الإمام الترمذي في سننه، والإمام أحمد في مسنده، وغيرهما، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا». قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «حِلَقُ الذِّكْرِ».
وفيما يلي شرح وافٍ لهذا الحديث النبوي العظيم:
### أولاً. شرح المفردات
● رِياض الجنة: الرياض جمع روضة، وهي البستان الغنّاء الكثير الأشجار والنبات، الجميل المنظر، وهو كناية عن شيء شديد الحسن والبهجة والنفع. ووصفها بأنها "من الجنة" إما لأن ثوابها يؤدي إلى الجنة، أو لأن لذتها وحسنها يشبهان ما في الجنة من النعيم.
● فارتعوا: الأصل أن "الرَّتْع" هو رعي الماشية في مكان خصيب كثير العشب، فتشبع ويسمن. فالمعنى المجازي: تزودوا واشبعوا وأنعموا من هذا الخير الكثير المتاح لكم.
● حِلَق الذكر: الحِلَق جمع حلقة، وهي الجماعة من الناس يجلسون على شكل دائرة (حلقة) لأجل غرض معين. و"الذكر" هنا يشمل كل ما يُتقرَّب به إلى الله من تلاوة القرآن، والتسبيح والتحميد والتهليل، وتعلم العلم وتعليمه، وذكر الله تعالى بأسمائه وصفاته، والاستغفار، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
### ثانياً. شرح الحديث
يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن مشهد عظيم من مشاهد الخير في الأمة، ألا وهو مشهد حِلَق الذكر التي يعقدها المسلمون في المساجد وغيرها ليتذاكروا أمر دينهم ويذكروا الله تعالى.
- يشبّه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحِلَق بـ "رياض الجنة" لشدة ما فيها من الخير والبركة والطمأنينة والنور، فهي مكان تُقطف فيه ثمار الإيمان، وتنشر فيه روائح الطاعة، ويحظى فيها الجالس بنفحات الرحمن، حتى كأنه في روضة من رياض الجنة وهو في الدنيا.
- ثم يأمرهم صلى الله عليه وسلم أن "يرتعوا" فيها، أي أن ينهلوا من هذا الخير، ويشبعوا قلوبهم من الإيمان، ويتزودوا من العلم والذكر ما يعينهم على طاعة الله ويملأ أوقاتهم بما ينفعهم. فهو أمر بالانتفاع بهذه المجالس والحرص على حضورها والاستفادة منها.
### ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر
1- فضل مجالس الذكر: الحديث دليل على المكانة العظيمة لمجالس الذكر عند الله تعالى، وأنها من أفضل المجالس وأحبها إلى الله. وقد ورد في أحاديث أخرى أن الله يذكر الذاكرين فيمن عنده، وأن الملائكة تحفهم، وتغشاهم الرحمة، وتنزل عليهم السكينة.
2- الحث على حضور حلق العلم والذكر: يحثنا النبي صلى الله عليه وسلم على اغتنام هذه الفرص الذهبية، والحرص على الجلوس في هذه الحِلَق، وعدم التفريط فيها. فمن وجد مجلس ذكر فليجلس معهم لينال هذا الأجر العظيم.
3- الترغيب لا الترهيب: جاء أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم ترغيبيًا جميلاً، فشبّهها ببساتين الجنة التي يرتع فيها المؤمن، مما يولد في النفس الشوق والحب لهذه المجالس،而不是 أن يأمر بها أمراً جافاً.
4- بيان قيمة الوقت: الأمر بالرتع يعني الاستفادة القصوى والانشغال بما هو نافع، فبدلاً من إضاعة الوقت في ما لا يفيد، فإن مجالس الذكر هي أفضل استثمار للوقت.
5- اجتماع القلب واللسان: الذكر المأمور به ليس مجرد ترديد باللسان، بل هو ذكر يكون باللسان ويستشعره القلب، فيورث الخشوع والطمأنينة.
### رابعاً. معلومات إضافية مفيدة
- يدخل في "حلق الذكر" كل مجلس يُذكر فيه الله تعالى، كمجالس تفسير القرآن، ومجالس الحديث، ومجالس الفقه، وحِلَق تحفيظ القرآن، والمجالس التي يُذكر فيها الله بالتكبير والتهليل، بل وكل مجلس خال من الغيبة والنميمة والكلام الباطل، يذكر فيه الناس الله ويتعاونون على البر والتقوى.
- من فضائل هذه المجالس كما في الحديث الآخر: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ».
- على المسلم أن يحرص على أن يكون له ورد يومي من الذكر، وعلى حضور ما يستطيع من حِلَق العلم، فإن لم يستطع، فليجلس في بيته يذكر الله تعالى، فذلك خير من مجالس اللغو واللهو.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، وأن يحشرنا في زمرة أهل طاعته ورضوانه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.