أي القرآن أنزل قبل: المدثر أم اقرأ؟

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإن هذا الحديث العظيم يروي قصة بدء الوحي ونزول أول آيات القرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم، وسأشرحه لكم وفقًا لما يلي:

---

1. شرح المفردات:

● جاورت بحراء: أي أقام النبي صلى الله عليه وسلم للتعبد في غار حراء.
● استبطنت بطن الوادي: يعني نزل إلى وسط الوادي.
● نُوديت: سمعت مناديًا يناديه.
● الرَجفة: الارتجاف والخوف الشديد.
● دثّروني: غطوني بثياب أو لباس للتدفئة أو السكنية.
● المدثر: الذي يتدثر بالثياب، أي المتغطي بها.

---

2. المعنى الإجمالي للحديث:

يبدأ الحديث بسؤال يحيى بن أبي كثير لأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن، فيجيب بأنه سورة المدثر، لكن يحيى يستدرك قائلاً: أليس هي سورة العلق (اقرأ)؟ فيروي أبو سلمة أنه سأل جابر بن عبد الله نفس السؤال، فأجاب بأن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم بأنه بعد انقضاء فترة عبادته في غار حراء، نزل إلى الوادي فسمع مناديًا يناديه، فالتفت حوله فلم ير أحدًا، ثم نودي مرة أخرى فرأى جبريل عليه السلام على عرش بين السماء والأرض (أو في الهواء)، فامتلأ خوفًا شديدًا، فأسرع إلى زوجته خديجة رضي الله عنها طالبًا أن يغطى بسبب ما أصابه من رعب، فنزلت عليه سورة المدثر ابتداءً من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إلى قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}.

---

3. الدروس المستفادة منه:

● بداية الوحي وعلامات النبوة: يبين الحديث كيف بدأ الوحي وكيف استقبله النبي صلى الله عليه وسلم بالخوف والرهبة، مما يدل على صدقه وتأثره بالوحي.
● أولية سورتي العلق والمدثر: فيه إشارة إلى أن أول ما نزل من القرآن هو أوائل سورة العلق (اقرأ) في الغار، ثم تلاها بعد فترة سورة المدثر بعد نزوله من الغار، وهذا يجمع بين الروايات التي تذكر أن أول ما نزل هو "اقرأ" وتلك التي تذكر "يا أيها المدثر".
● ثبات النبي وصبره: رغم الخوف الشديد الذي اعتراه، إلا أنه لم ييأس بل توجه إلى من يثق بهم (خديجة رضي الله عنها) مما يدل على حكمته وصبره.
● دور الصحابة في نقل السنة: الحديث يظهر حرص الصحابة مثل جابر بن عبد الله على رواية ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم بدقة، وتواصل السند بينهم وبين التابعين مثل يحيى بن أبي كثير.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

● الجمع بين روايات أولية النزول: جمهور العلماء على أن أول ما نزل من القرآن هو أوائل سورة العلق في غار حراء، ثم توقف الوحي فترة، ثم نزلت سورة المدثر بعد ذلك لتبدأ مرحلة الدعوة الجهرية، وهذا الحديث يوضح أن سورة المدثر هي أول ما نزل بعد فترة الانقطاع.
● معنى "على العرش في الهواء": المقصود أن جبريل عليه السلام ظهر في هيئته الملكية العظيمة، مما سبب الخوف للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس المقصود أن العرش لله تعالى، بل هو كناية عن عظمة المنظر.
● العبرة من الأمر بتطهير الثياب: في قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} إشارة إلى الطهارة المعنوية والحسية استعدادًا للدعوة والعبادة.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.