أن تلد الأمة ربتها ويرى الحفاة العالة يتطاولون في البنيان

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، و نسأل الله تعالى أن يرزقنا و إياكم العلم النافع والعمل الصالح، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علما وفقها في الدين واجعلنا هداة مهتدين.
هذا الحديث العظيم الذي سألت عنه هو جزء من الحديث المشهور بحديث جبريل، وهو حديث عظيم الشأن، جامع لأركان الإسلام والإيمان والإحسان، وقد رواه الإمام مسلم في صحيحه.

---

أولاً. شرح المفردات:

● شديد بياض الثياب: أي ثيابه ناصعة البياض، تظهر عليها علامات النظافة والبهاء.
● شديد سواد الشعر: شعر رأسه أسود شديد السواد، لا يظهر عليه أثر شيبة.
● ما المسئول عنها بأعلم من السائل: أي أن الذي يُسأل عن وقت قيام الساعة (وهو النبي صلى الله عليه وسلم) ليس عنده من العلم فيها أكثر مما عند السائل (وهو جبريل في صورة رجل).
● أن تلد الأمة ربتها: "الأمة" هنا هي الأمة الجارية، و"ربتها" هي سيدتها ومولاتها. والمعنى أن تلد الجارية ولداً يكون سيداً لها، وذلك بكثرة استيلاد الإماء من سادتهن، فيكون الولد سيداً لأمه.
● الحفاة العراة العالة: "الحفاة" هم الذين لا نعل لهم، "العراة" الذين لا ثياب تكسوهم، "العالة" هم الفقراء المعدمون.
● رعاء الشاء: "رعاء" جمع راعٍ، و"الشاء" هي الغنم. أي أن هؤلاء كانوا رعاة للغنم، في حال فقر وضيق.
● يتطاولون في البنيان: أي يتفاخرون ويتباهون في بناء المساكن العالية والبيوت الفاخرة.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يخبر سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن موقف جليل حصل مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حيث ظهر لهم رجل على هيئة بشرية غريبة من شدّة نظافة ثيابه وبهاء منظره، وسواد شعره، لا يُعرف من هو.
فسأل هذا الرجل (وهو جبريل عليه السلام في صورة رجل) النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، وأجابه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سأله عن الساعة وأماراتها.
فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤال "متى الساعة؟" بأن علمها عند الله تعالى لا يُطلع عليه أحداً، لا نبيّاً مرسلاً ولا ملكاً مقرّباً، فقال: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل»، أي أنا وأنت في العلم بوقت وقوعها سواء، لا نعلمه.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره عن أماراتها، أي علاماتها الدالة على قربها، ومنها:
1- «أن تلد الأمة ربتها»: وهذا من العلامات الصغرى التي وقعت، وذلك إما بأن تكثر الجواري والإماء حتى تلد الأمة من سيدها ولداً فيصبح هذا الولد سيداً لها، أو أن تصير البنت قاهرة لأمها مسيطرة عليها كالسيدة، فتطيعها الأم طاعة العمياء، فيصير الولد كالسيد لأمه.
2- «وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان»: وهذا أيضاً من العلامات التي وقع كثير منها، حيث ترى الفقراء المعدمين، الذين كانوا يرعون الغنم وليس لهم مال ولا لباس، يصيرون فجأة من الأثرياء، فيتفاخرون في بناء العمارات الشاهقة والمساكن الفاخرة، وهذا دليل على فتنة المال والتباهي بالدنيا.
ثم انصرف جبريل عليه السلام، وبعد مكث طلب النبي صلى الله عليه وسلم من عمر رضي الله عنه أن يعرف من كان السائل، وأخبره أنه جبريل عليه السلام جاء ليعلمهم أمر دينهم.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- جهل الخلق بوقت قيام الساعة: علم الساعة من الغيب الذي استأثر الله به، فلا يعلمه نبي ولا ملك، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي ۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187].
2- الإيمان بالغيب: من أصول الإيمان التصديق بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب، كأشراط الساعة.
3- التواضع العلمي: حيث أجاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يعلم وقت الساعة، مع أنه رسول الله، وهذا غاية التواضع في قبول العلم.
4- التحذير من فتنة المال والتباهي بالدنيا: من أمارات الساعة أن يتفاخر الناس بالبنيان والمظاهر الدنيوية، وهذا يدعو المسلم إلى الزهد في الدنيا وعدم الغرور بها.
5- بيان طريقة التعلم: حيث جاء جبريل عليه السلام في صورة طالب علم ليسأل ويناقش، ليعلم الصحابة كيفية طرح الأسئلة وآدابها.
6- عظمة هذا الحديث: حيث جمع أصول الدين كلها (الإسلام، الإيمان، الإحسان)، وبيان أمارات الساعة.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

- هذا الحديث يسمى حديث جبريل، وهو من الأحاديث الأساسية التي عليها مدار الدين.
- رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان.
- فيه بيان أن السؤال عن العلم وتعليم الناس من أعظم القربات.
- وفيه إثبات صفة المجيء والإتيان لجبريل عليه السلام على هيئة رجل، مما يدل على قدرة الملائكة على التمثل في صور البشر.
نسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يفقهنا في ديننا، ويبصرنا في آيات