مؤمن بين كريمين أفضل الناس

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أهلاً وسهلاً بك، وأسأل الله أن يوفقنا جميعاً لفهم سنة نبيه والعمل بها.
هذا حديثٌ له دلالات عميقة تتعلق بآخر الزمان ووصف حال الناس فيه، وسأشرحه لك جزءاً جزءاً مستعيناً بالله ثم بما ورد في شروح العلماء المعتمدين.
### أولاً. تخريج الحديث ومصدره
هذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في المعجم الكبير، وقال عنه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة": "إسناده صحيح". وهو من الأحاديث التي تُنبئ عن علامات من علامات آخر الزمان.

### ثانياً. شرح مفردات الحديث
* يوشك: يقرب ويَقرُب، أي أن الأمر على وشك الحدوث.
* أن يَغْلِبَ على الدنيا: أن يتسلط عليها ويصير هو المسيطر والحاكم فيها.
* لَكَعْ بْنِ لَكَعْ بْنِ لَكَعْ: "اللَّكَع" في اللغة هو الحقيرُ واللئيمُ والوضيعُ الأصل، قليلُ الدين والخير. وكررها النبي ﷺ (ثلاث مرات) للمبالغة في وصف حقارته ولؤمه وعدم أصالته، فهو ليس حقيراً فحسب، بل هو ابن حقير وحفيد حقير، مما يؤكد على انعدام قيمته وخسة أصله ودينه.
* وَأَفْضَلُ النَّاسِ: خيرهم وأعظمهم منزلةً عند الله.
* مُؤْمِنٌ بَيْنَ كَرِيمَيْنِ: رجل مؤمن صالح، يكون محصوراً ومحاطاً بين شخصين (أو جيلين) من أهل الكرم والشرف والأصل الطيب. وقيل أيضاً: "بين كريمين" أي من أبوين كريمين ذوي أصل وشرف.

### ثالثاً. شرح معنى الحديث
ينقسم الحديث إلى جزأين، يصف كل منهما حالاً من أحوال آخر الزمان:
1- الجزء الأول: «يوشك أن يغلب على الدنيا لكع بن لكع بن لكع»
هذا نبوءة من النبي ﷺ عن حالة التسلط والقيادة في الأرض في آخر الزمان، حيث يصل الأمر إلى أن يتولى زمام الأمور (في الحكم والسلطان والمال والتأثير) أناس ليسوا أهلاً لذلك. هم أشخاص حقيرون في أخلاقهم، لئيمون في تعاملهم، ضعيفو الدين، لا أصل لهم ولا شرف ولا مبدأ. ليس لهم هم إلا جمع المال والسلطة بأي طريقة، حتى لو كانت غير شريفة. هذا من علامات اقتراب الساعة وفساد الزمان، عندما تُسلب البركة من الرجال، ويصعد الأرذلون إلى مراكز القيادة.
2- الجزء الثاني: «وأفضل الناس مؤمن بين كريمين»
في مقابل هذا الفساد العام وتسلط الأرذال، يبين النبي ﷺ أن معيار التفاضل عند الله سيختلف تماماً. ففي ذلك الزمان، لن يكون التفاضل بالمناصب الدنيوية أو الجاه أو المال، لأن حامليها قد يكونون من أفسق الناس.
Instead, سيكون خير الناس وأرفعهم درجة هو ذلك الرجل المؤمن المجهول، الذي لا منصب له ولا سلطان، ولكنه محافظ على إيمانه وسط ذلك الفساد. وهو "بين كريمين" وهذا له معنيان جميلان يجمع بينهما العلماء:
* المعنى الأول: أنه يكون محصوراً بين أبوين كريمين صالحين، يعينانه على طاعة الله ويحفظانه من الفتن، فهذا كرم الأصل والعون.
* المعنى الثاني: أنه يكون محاصراً بين جيلين من الكرام (أي آباء صالحين وأبناء صالحين)، فهو خيرٌ في زمن قل فيه الخير. هذا المعنى يعطي الأمل بأن الخير لا يزال موجوداً، لكنه أصبح نادراً ومحصوراً في بيئات محدودة.
فالأفضلية هنا هي بالتقوى والإيمان، وليس بالحسب والنسب أو الجاه والمنصب الدنيوي الفاسد.

### رابعاً. الدروس والعبر المستفادة
1- الإيمان بالغيب: الحديث يصدقنا على أن النبي ﷺ يخبر بأمور ستقع في المستقبل، مما يزيدنا يقيناً بنبوته.
2- من علامات الساعة: تسلط الأرذال والحقيرين من الناس على مقادير الأمور هو من أشراط الساعة الصغرى التي أخبر عنها النبي ﷺ، وكثير منها نراه يتحقق في زماننا.
3- عدم الاغترار بالدنيا: لا ينبغي للمؤمن أن يغتر بمن يرى لهم سلطاناً ومالاً في الأرض، فقد يكونون عند الله من أخس الناس وأقلهم قيمةً لفساد أخلاقهم ودينهم.
4- معيار التفاضل الحقيقي: يذكرنا الحديث بأن المقياس الحقيقي للتفاضل هو التقوى والإيمان، وليس المناصب الدنيوية الزائلة. فقيمة المرء عند الله بما في قلبه من إيمان وعمل صالح.
5- الأمل ووجود الخير: رغم وصف الحديث للفساد، إلا أنه يختم بوجود الخير ("مؤمن بين كريمين")، مما يعطي الأمل ويحث المؤمن على أن يكون هو ذلك الخير النادر، وأن يحافظ على إيمانه وأخلاقه مهما فسد المحيط حوله.
6- أهمية البيئة الصالحة: المعنى الثاني للحديث ("بين كريمين") يشير إلى أهمية وجود الإنسان في بيئة صالحة تعينه على الخير، وتكون سنداً له في زمن الفتن.
أسأل الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يحفظنا من فتن الدنيا وما فيها، وأن يثبتنا على الإيمان حتى نلقاه.
والله أعلم.