تغزون فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، حياكم الله و بياكم أيها السائل الكريم، ونسأل الله أن يفتح علينا أبواب فهم حديث نبيه ﷺ، وأن يرزقنا العمل بما فيه من الحكم والمواعظ.
هذا الحديث العظيم رواه الإمام مسلم في صحيحه، وهو من الأحاديث التي تتناول علامات من علامات الساعة وأخبار الغيبيات التي أخبر بها النبي ﷺ، والتي تحققت بعضها وتحقق البعض الآخر بإذن الله.

---

أولاً. شرح المفردات:

● غزوة: معركة أو حملة عسكرية كان يشارك فيها النبي ﷺ بنفسه.
● أكمة: تلة صغيرة أو مكان مرتفع من الأرض.
● لا يغتالونه: أي لا يقتلوه غدراً أو بخيانة.
● نجي معهم: أي حديث سري أو مجلس خاص بينه وبينهم.
● أعدّهن في يدي: كناية عن الحرص على حفظها وتكرارها كأنه يعدها بأصابعه ليثبتها في ذهنه.
● جزيرة العرب: شبه الجزيرة العربية التي تضم الحجاز واليمن وغيرها.
● فارس: الإمبراطورية الفارسية (إيران حالياً).
● الروم: الإمبراطورية البيزنطية.
● الدجال: المسيح الدجال، أعظم فتنة على وجه الأرض.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يحدثنا الصحابي الجليل نافع بن عتبة رضي الله عنه عن موقف حصل مع النبي ﷺ أثناء إحدى الغزوات، حيث جاءت مجموعة من الناس (ويُرجح أنهم من أهل اليمن أو من المناطق الغربية من الجزيرة العربية) وهم يلبسون ثياب الصوف، وهي علامة على الزهد والتقشف.
وقف هؤلاء القوم أمام النبي ﷺ وهو جالس، فخاف نافع بن عتبة على النبي ﷺ من أي مكيدة، فقام ليقف بينهم وبين النبي حماية له، ثم فكّر أنه ربما يكون لديهم حديث سري مع النبي، فاكتفى بالوقوف بينهم ليسمع الحديث ويحميه في نفس الوقت.
ومن رحمة الله بهذا الصحابي، أنه استمع من النبي ﷺ أربع كلمات عظيمة، هي بشارات ونبوءات غيبية عن انتصارات будуية للأمة الإسلامية، حفظها ووعاها.
محاور هذه البشارات الأربع هي:
1- فتح جزيرة العرب: وقد تحقق هذا في عهد النبي ﷺ والخلفاء الراشدين، حيث توحدت الجزيرة العربية تحت راية الإسلام.
2- فتح فارس (الإمبراطورية الفارسية): تحقق هذا في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، على يد القائدين العظيمين سعد بن أبي وقاص في معركة القادسية، والنعمان بن مقرن في معركة نهاوند.
3- فتح الروم (الإمبراطورية البيزنطية): بدأ هذا الفتح في عهد الخلفاء الراشدين واستمر على مدى عصور الخلافة الأموية والعباسية، وكان من أبرز معالمه فتح القسطنطينية (إسطنبول حالياً) على يد السلطان العثماني محمد الفاتح عام 1453م، وهو ما بشّر به النبي ﷺ في حديث آخر: "لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ".
4- قتال الدجال وخروجه: هذه من علامات الساعة الكبرى، حيث سيكون خروج الدجال أعظم فتنة، ولكن الله تعالى سينصر المؤمنين عليه بقيادة عيسى بن مريم عليه السلام، فيقتله عند باب لُدّ في فلسطين، كما جاء في الأحاديث الصحيحة.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- صدق نبوة محمد ﷺ: الحديث من أعظم الأدلة على نبوته، فقد أخبر بأمور غيبية وقعت بعد وفاته بدقة متناهية.
2- الحرص على سلامة النبي ﷺ: الموقف يُظهر مدى حب الصحابة للنبي ﷺ وتفانيهم في حمايته، وهو نموذج يجب أن يحبه كل مسلم.
3- البشارة بنصرة الإسلام: الحديث يبعث على التفاؤل ويثبت قلوب المؤمنين بأن النصر حليف هذه الأمة وإن طال الزمن، وأن راية الإسلام سترفرف على هذه البلاد.
4- التدرج في الفتوحات: بيان الحكمة الإلهية في فتح البلاد بشكل متدرج، مما يدل على أن بناء الأمة وانتشار الإسلام يحتاج إلى صبر وتخطيط.
5- الفتن وآخر الزمان: الحديث يربط بين الفتوحات الإسلامية الكبرى وبين أحداث آخر الزمان وعلامات الساعة، مما يذكر المسلم دائمًا بالاستعداد للآخرة.

---

رابعاً. شرح تعليق نافع بن جبير (تصحيح:

الراوي هو نافع بن عتبة والمخاطب هو جابر):
في آخر الحديث، يقول الراوي نافع بن عتبة للمخاطب (جابر): "لا نرى الدجال يخرج حتى تفتح الروم".
هذا تعليق من الصحابي يفهمه من سياق الحديث، حيث أن النبي ﷺ ذكر الفتوحات بالترتيب (جزيرة العرب، ثم فارس، ثم الروم، ثم الدجال). فاستنتج الصحابي أن خروج الدجال - وهو آخرها - لن يكون حتى يتحقق فتح الروم بالكامل. وهذا فهم دقيق منه رضي الله عنه، حيث أن أحداث آخر الزمان وعلامات الساعة الكبرى مترابطة ومتسلسلة.
وهذا يذكرنا بفضل الصحابة رضوان الله عليهم وفهمهم العميق لمراد النبي ﷺ، وأن كلامهم يعتبر تفسيراً للحديث النبوي.

أسأل الله تعالى أن يج