نهى النبي عن النُّبْت والمُثْلَة

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، و نسأل الله تعالى أن يفتح لنا أبواب فضله وكرمه، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علما وفقها في الدين وارض عنا يا أكرم الأكرمين.
الحديث الشريف:
عن عبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه قال: "نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنِ النَّبْذِ وَالمُثْلَةِ".
(رواه أبو داود في سننه، وصححه الألباني)

---

1. شرح المفردات:

* نَهَى: أي حرّم وأمر بالترك والامتناع.
* النَّبْذ: هو نبيذ التمر أو الزبيب، وهو ما يُنقع في الماء حتى يحلو ويتخمر قليلاً، وكانوا يشربونه في أول أمره قبل أن يصبح مسكراً شديد التخمر.
* المُثْلَة: هي التمثيل بالجثة بعد الموت، بتشويهها أو بتر أعضائها أو تحريقها أو غير ذلك من أنواع العبث بها، سواء كان ذلك بجثة الإنسان أو الحيوان.

---

2. شرح الحديث:

يُبيّن لنا النبي ﷺ في هذا الحديث تحريم أمرين:
أولاً: النهي عن النَّبْذ (نبيذ التمر والزبيب):
لم يكن النهي هنا عن النبيذ مطلقاً، بل عن طريقة صنعه التي كانت متبعة في الجاهلية وصدر الإسلام، والتي تؤدي غالباً إلى تحوله إلى مسكر. فقد كانوا ينبذون التمر أو الزبيب في الماء في أوعية مفتوحة (كالقرب والظروف) لفترة طويلة، مما يجعله يتخمر سريعاً ويصبح مسكراً. فنهى النبي ﷺ عن هذه الطريقة سداً للذريعة، ومنعاً من الوقوع في شرب الخمر.
وقد جاءت أحاديث أخرى تُبين الطريقة المشروعة لصنع النبيذ (الذي هو شراب حلو غير مسكر)، بأن يكون في أوعية مغلقة (كالزقاق أو القِلال) وأن يشرب في اليوم نفسه أو اليوم التالي قبل أن يبدأ بالتخمر الشديد والإسكار. فالمحرم هو كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام.
ثانياً: النهي عن المُثْلَة:
وهو تحريم التمثيل بجثث القتلى أو الحيوانات، سواء كان ذلك انتقاماً أو غضباً أو ل устраية العدو. وهذا النهي يتجلى في أخلاقية الحرب في الإسلام، حيث يحرم التشفي في جثة العدو حتى ولو كان كافراً محارباً. فالإسلام يفرق بين القتال المشروع في ساحات الوغى، وبين العبث بالجثث بعد انتهاء الروح، فهذا أمر لا يقبله الخلق الإسلامي الرفيع.
وقد ورد النهي عن المثلة في أحاديث أخرى، منها قوله ﷺ: «وَإِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ» أي حتى بالكلب الذي يعقر الناس ويؤذيهم.

---

3. الدروس المستفادة منه:

1- سد الذرائع: النهي عن نبيذ الظروف (الذي يصنع في أوعية مفتوحة) هو تطبيق واضح لمبدأ سد الذرائع في الشريعة الإسلامية، حيث يمنع الأمر الذي يُخشى منه الوقوع في المحرم، حتى لو كان في أصله جائزاً.
2- تحريم كل مسكر: يؤكد الحديث على أن كل ما أسكر كثيره فهو حرام، ولو كان من المشروبات التي تبدو غير مسكرة في بدايتها.
3- الرفق بالحيوان حتى بعد موته: النهي عن المثلة يشمل الإنسان والحيوان، مما يدل على تكريم الإسلام للخلق جميعاً، وحرمة العبث بجثة أي كائن حي.
4- أخلاقية الحرب: يربي الإسلام أتباعه على الالتزام بخلق رفيع حتى في أشد أوقات الصراع، فلا مكان للهمجية أو الانتقام الآثم الذي يتعدى حدود الله.
5- التشريع الحكيم: يظهر من الحديث حكمة التشريع الإسلامي الذي يراعي المصالح ويدرأ المفاسد، سواء في حفظ العقل من المسكرات، أو حفظ الكرامة الإنسانية حتى بعد الموت.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

* الفقهاء استنبطوا من النهي عن المثلة تحريم التمثيل بجثث الأعداء في الحروب، وتحريم التمثيل بالحيوانات عند ذبحها أو إيذائها.
* الحديث يدل على عظمة الإسلام وسماحته، حيث حرّم هذه الأفعال الوحشية التي كانت شائعة في الجاهلية، ليرتقي بالناس أخلاقياً واجتماعياً.
* النهي عن نبيذ الظروف كان تدريجياً في التحريم، حتى أصبح التحريم قاطعاً لكل شراب مسكر بأي طريقة كانت، تطبيقاً للقاعدة الشرعية: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ".
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.