إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله.
أهلاً وسهلاً بك، أيها السائل الكريم، وأشكرك على ثقتك. هذا حديث عظيم من أحاديث الصحيح يرويه الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهو من السابقين الأولين إلى الإسلام، ومن العشرة المبشرين بالجنة. سأشرحه لك جزءاً جزءاً مستنداً إلى كبار شراح الحديث مثل الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" وابن حجر العسقلاني في "فتح الباري".

---

أولاً. شرح المفردات:

● أول العرب رمى بسهم في سبيل الله: أي أول من قاتل الكفار بالسهام دفاعاً عن الإسلام.
● ورق الحبلة: ورق شجرة الحبلة (وهو نوع من الشجر ذي الورق الأخضر الذي يؤكل عند الضرورة).
● السمر: هو الطلح أو شجر السمر (شجر له شوك، وكانوا يأكلون من ثمره أو ورقها).
● ليضع كما تضع الشاة: "يضع" أي يبرك وينزل إلى الأرض من شدة الجوع والضعف، كالشاة التي لا تقوى على القيام.
● ما له خلط: "الخلط" هنا يعني الخلطاء أو الرفقاء والأصحاب الذين يساعدونه ويؤنسونه. والمعنى: ليس له أحد يساعده أو يشاركه حاله.
● تعزرني على الإسلام: "تعزرني" من العزر، وهو العتب والتوبيخ والتقريع. أي يلومونني ويعاتبونني على تمسكي بالإسلام وولائي له.
● خبت إذًا وضل سعيي: "خبت" أي خسرت وذهبت جهودي سدى. و"ضل سعيي" أي حبط عملي وصار باطلاً لا قيمة له.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يصف سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حال الصحابة الأوائل في بداية الدعوة الإسلامية، وكيف أنهم تحملوا الفقر والجوع والشدة في سبيل الله. فهو يفتخر بأنه كان من الرواد الأوائل في الجهاد، حيث كان أول من رمى سهمًا في معركة للدفاع عن الإسلام، مما يدل على سبقه وبذله نفسه في سبيل العقيدة.
ثم ي对比 (يقارن) بين تلك الأيام الصعبة التي عاشوها، حيث كان طعامهم مجرد أوراق الأشجار من شدة الفقر والحاجة، وكان الواحد منهم يسقط من الجوع والضعف كما تسقط الشاة المنهكة، دون أن يكون حوله من يعينه أو يشفق عليه، وبين الحال بعد أن أعز الله الإسلام وانتشر. فقد أصبح بعض الناس – وهم هنا بنو أسد – يلومونه ويعاتبونه على تمسكه بالإسلام وولائه له، وكأنه ارتكب ذنبًا بذلك.
فيعبر عن حسرته وألمه من هذا الموقف بقوله: "خبت إذًا وضل سعيي"، أي إذا كان هذا جزائي ممن أنفقنا الجهد والعرق من أجلهم، فمعنى ذلك أن جهادي وسبقي للإسلام قد ذهب هباءً وخسرت كل ما بذلته. وهذا من باب التعبير عن شدة الغضب والأسى، وليس على سبيل الحقيقة، فالله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- بيان فضل السابقين الأولين: الحديث يظهر عظيم جهد الصحابة الأوائل وتضحياتهم الجسيمة في سبيل إعلاء كلمة الله، مما يوجب محبتهم وتقديرهم والدفاع عنهم.
2- الصبر على الشدائد: في الحديث حث على الصبر على الفقر والجوع والضعف في طريق الدعوة إلى الله، وأن هذه الشدائد هي زاد المؤمن الحقيقي.
3- الوفاء للدعاة والمجاهدين: ذمُّ الحديث للجحود ونكران الجميل، وتحذير من لوم الدعاة والمصلحين أو التقليل من شأنهم بعد أن ييسر الله ويُعز الدين على أيديهم.
4- أن الجزاء من جنس العمل: من يعين الناس على الخير ويجاهد في سبيل الله ينتظر منهم الدعم والوفاء، لا الجحود والعتاب. وهذا درس للمجتمعات في ضرورة تقدير رواد الخير.
5- أن الكلمة المؤثرة قد تجرح: حتى الصحابة الكبار كانوا يشعرون بالألم من كلمات اللوم والعتاب، خاصة إذا جاءت ممن قدموا من أجلهم التضحيات. وهذا تذكير بضرورة انتقاء الكلمات ومراعاة مشاعر الآخرين.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

- هذا الحديث رواه الإمام البخاري في صحيحه.
- قول سعد "خبت إذًا وضل سعيي" هو من باب "الاستبطاء" و "الحزن" على حال من يعاتبونه، وليس شكاً في عدل الله تعالى، فهو يعلم أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. بل هو تعبير عن شدة الغضب والأسى على جحودهم.
- بنو أسد الذين يعاتبونه هم من قبائل العرب التي أسلمت بعد الفتح، وكان بعضهم قد جاء يطلب العطاء من سعد رضي الله عنه (وهو والي الكوفة آنذاك)، فلما لم يعطهم ما يريدون بكثرة، عاتبوه على إسلامه القديم وولائه، فقال هذه الكلمات مغضباً لحالهم.
أسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يجعلنا من الشاكرين لا من الجاحدين، والله أعلم.