الزبير يوم اليرموك: إني إن شددت كذبتم

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإني أقدم لكم شرحًا لهذا الحديث النافع الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه، عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما، معتمدًا على كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.

---

نص الحديث:

عن عروة بن الزبير أن أصحاب رسول الله ﷺ قالوا للزبير يوم اليرموك: ألا تشد فنشد معك؟ فقال: إني إن شددت كذبتم. فقالوا: لا نفعل. فحمل عليهم حتى شق صفوفهم، فجاوزهم وما معه أحد، ثم رجع مقبلاً، فأخذوا بلجامه، فضربوه ضربتين على عاتقه، بينهما ضربة ضُربها يوم بدر. قال عروة: كنت أدخل أصابعي في تلك الضربات ألعب وأنا صغير. قال عروة: وكان معه عبد الله بن الزبير يومئذ وهو ابن عشر سنين، فحمله على فرس ووكَّل به رجلاً.

---

1. شرح المفردات:

● تشدد: تقدم للقتال بشجاعة وبطولة.
● نشد معك: نقدم معك ونقاتل بِجَنْبك.
● كذبتم: تخلفتم عن نصرتي ووعدكم.
● حمل عليهم: هجم على الأعداء بسرعة وشجاعة.
● شق صفوفهم: اخترق صفوف الروم حتى تجاوزهم.
● أخذوا بلجامه: أمسكوا بلجام فرسه (اللجام: ما يوضع في فم الفرس لتوجيهه).
● عاتقه: كتفه.
● ضُرِبها: أصيب بها.
● وكَّل به رجلاً: جعل معه رجلاً يحرسه ويحفظه.

---

2. شرح الحديث:

هذا الحديث يروي قصة بطولة الصحابي الجليل الزبير بن العوام رضي الله عنه، ابن عمة النبي ﷺ وأحد العشرة المبشرين بالجنة، في معركة اليرموك التي وقعت بين المسلمين والروم في سنة 15 هـ.
● الموقف الأول: طلب الصحابة من الزبير أن يبدأ الهجوم:
طلب الصحابة من الزبير رضي الله عنه أن يبدأ الهجوم على الأعداء (الروم) ووعدوه أن يتبعوه ويقاتلوا معه، لكنه شك في وفائهم بوعدهم بسبب تجربة سابقة، حيث قال: "إني إن شددت كذبتم"، أي: "إذا تقدمت للقتال تخلفتم عني ولم تنصروني".
● الموقف الثاني: حمله الشجاع وتخلف الصحابة عنه:
بعد أن أكدوا له أنهم لن يتخلفوا، حمل الزبير على الأعداء وحده، فشق صفوفهم واخترقها حتى تجاوزهم، ولكن لم يتبعه أحد من الصحابة كما كانوا وعدوه.
● الموقف الثالث: عودته وإصابته:
عندما رجع إلى صفوف المسلمين، أمسكوا بلجام فرسه وضربوه على كتفه ضربتين، وكان بين هاتين الضربتين أثر ضربة قديمة أصيب بها في غزوة بدر. وهذا يدل على شجاعته وتحمله للأذى في سبيل الله.
● الموقف الرابع: شهادة عروة بن الزبير:
يذكر عروة بن الزبير (ابن أخيه) أنه كان يدخل أصابعه في تلك الجروح القديمة وهو صغير، مما يدل على عمق تلك الإصابات وقدمها.
● الموقف الخامس: وجود عبد الله بن الزبير:
كان عبد الله بن الزبير (ابن أخيه أيضًا) حاضرًا المعركة وهو صغير (عمره 10 سنوات)، وقد حمله الزبير على فرس وجعل معه رجلاً يحرسه، مما يدل على حرصه على تربية النشء على الشجاعة والإيمان، مع مراعاة سلامتهم.

---

3. الدروس المستفادة من الحديث:

1- الشجاعة والإقدام في الجهاد:
قصة الزبير رضي الله عنه تظهر أعلى درجات الشجاعة والتضحية في سبيل الله، حيث حمل على الأعداء وحده رغم كثرتهم.
2- الصدق في الوعد:
الحديث يذكر تخلف الصحابة عن نصرته رغم وعدهم، وهذا يُعَلِّمنا أهمية الوفاء بالعهود وعدم التخلف عن نصرة إخواننا.
3- الصبر على الأذى:
تحمل الزبير للإصابات القديمة والجديدة يدل على صبر الصحابة رضي الله عنهم على ما يصيبهم في سبيل الدعوة والجهاد.
4- تربية الأبناء على الشجاعة:
حرص الزبير على وجود ابنه عبد الله (الذي أصبح لاحقاً من كبار الصحابة) في المعركة مع توفير الحماية له، يدل على أهمية غرس روح الجهاد والشجاعة في النشء منذ الصغر، مع مراعاة أعمارهم وقدراتهم.
5- التضحية والفداء:
هذه القصة تذكرنا بتضحيات الصحابة رضي الله عنهم، الذين بذلوا دماءهم وأموالهم في سبيل إعلاء كلمة الله.
6- الأثر العميق للجهاد:
جروح الزبير التي بقت ظاهرة حتى بعد سنوات طويلة تدل على ما لاقاه الصحابة من مشاق في سبيل نشر الإسلام.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

● الزبير بن العوام:
هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى، وابن عمة النبي ﷺ (صفية بنت عبد المطلب)، وهو حواري رسول الله ﷺ.
● معركة اليرموك:
من أعظم معارك المسلمين ضد الروم، وانتصر فيها المسلمون انتصارًا عظيمًا بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه، وكانت سببًا في فتح بلاد الشام.
● عبد الله بن الزبير:
هو ابن أخي الزبير، وقد أصبح لاحقاً خليفة للمسلمين وممن قاتل في سبيل الحق، واستشهد في مكة.
- **عروة بن