لأبعثن رجلا أمينا حق أمين: أبو عبيدة بن الجراح

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإليك شرح هذا الحديث النبوي الشريف الذي رواه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، معتمدًا في ذلك على كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.

---

نص الحديث:

عن ابن مسعود قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران، قال: وأرادا أن يلاعنا رسول الله ﷺ، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه، فوالله لئن كان نبيا فَلَعَنَّا، -قال خلف: فلاعَنَّا- لا نفلح نحن ولا عقبنا أبدا، قال: فأتياه، فقالا: لا نلاعنك، ولكنا نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلا أمينا، فقال النبي ﷺ: «لأبعثن رجلا أمينا حق أمين، حق أمين» قال: فاستشرف لها أصحاب محمد، قال: فقال: «قم يا أبا عبيدة بن الجراح» قال: فلما قفّى، قال: «هذا أمين هذه الأمة».

---

1. شرح المفردات:

● العاقب والسيد: هما زعيمان من زعماء نصارى نجران، وكان "العاقب" لقبًا لرئيسهم في الأمور الدينية، و"السيد" لقبًا لرئيسهم في الأمور الدنيوية.
● يلاعنا: من المُلاعنة، وهي المباهلة، وهي الدعاء باللعنة على الكاذب من المتجادلين.
● فَلَعَنَّا: أي فليقع اللعنة علينا.
● فلاعَنَّا: رواية أخرى تؤكد معنى اللعنة.
● لا نفلح: لا ننجح ولا نفوز.
● عقبنا: ذريتنا وأبناؤنا من بعدنا.
● فاستشرف لها: تطلعوا وارتفعوا لها، أي تمنى كل صحابي أن يكون هو ذلك الرجل الأمين.
● فقفّى: أي ولّى وذهب.
● أمين هذه الأمة: أي أشدها أمانة وأوثقها في حفظ الحقوق والأمانات.

---

2. شرح الحديث:

يحدثنا الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن وفد نصارى نجران الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لمناقشته في مسألة عيسى عليه السلام، حيث أنكروا بنوّته لله تعالى وادعوا أنه ابن الله، فأنزل الله تعالى آية المباهلة: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61].
فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة، فأرادوا ذلك في البداية، ثم تراجعوا بعد أن تناصحوا بينهم، حيث قال أحدهم للآخر: "إياك أن تلاعنه، فإن كان نبيا حقًا فستحل علينا اللعنة، وهلاكنا في الدنيا والآخرة". فقرروا الاعتذار عن المباهلة، ووافقوا على دفع الجزية التي طلبها منهم النبي صلى الله عليه وسلم، وطلبوا منه أن يبعث معهم رجلاً أمينًا ليقتسم أموال الجزية ويوزعها بشكل عادل.
فأعلن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيبعث رجلاً "أمينًا حق أمين"، فتحمس الصحابة رضي الله عنهم وتطلع كل منهم إلى أن يكون هو المُختار لهذه المهمة الجليلة، فكانت المفاجأة عندما نادى النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فلما خرج ومضى في طريقه، أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: "هذا أمين هذه الأمة"، وهذا من أعظم المناقب لأبي عبيدة رضي الله عنه.

---

3. الدروس المستفادة:

● عظمة النبي صلى الله عليه وسلم: حيث خشي النصارى من مباهلته لعلمهم أنه صادق، فخافوا على أنفسهم من اللعنة.
● الحكمة في الدعوة: حيث قبل النبي صلى الله عليه وسلم منهم الصلح ودفع الجزية بدلاً من الإصرار على الحرب.
● مكانة الأمانة: فقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على اختيار أمين حقًا لهذه المهمة، مما يدل على أهمية الأمانة في الإسلام.
● منقبة عظيمة لأبي عبيدة: حيث خصه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة العظيمة "أمين هذه الأمة"، مما يدل على مكانته بين الصحابة.
● تواضع الصحابة: حيث تمنى كل منهم أن يكون هو المختار، مما يدل على حرصهم على الخير وخدمة الدين.
● قوة إيمان الصحابة: حيث كانوا مستعدين لبذل أنفسهم في سبيل الله ونصرة دينه.

---

4. معلومات إضافية:

- هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، وهو من الأحاديث الصحيحة.
- أبو عبيدة بن الجراح هو عامر بن عبد الله بن الجراح، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد كبار commanders في فتوحات الشام.
- نجران: منطقة في جنوب الجزيرة العربية، وكانت مركزًا للنصرانية في ذلك الوقت.
- هذا الحديث يظهر أيضًا صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث خاف منه opponentsه واعترفوا بقوته وحقيقة رسالته.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.