ويحك، أوهبلت، أوجنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد،
حياكم الله و بياكم أيها السائل الكريم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب. هذا حديث عظيم فيه مواساة للنبي صلى الله عليه وسلم لأم حارثة وتثبيت لها، وفيه بيان لعظيم فضل الله تعالى وكرمه.

---

أولاً. نص الحديث ورواته:

هذا الحديث رواه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد والسير، باب من قتل في سبيل الله فهو في الجنة. وهو عن أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

---

ثانياً. شرح المفردات:

● أصيب حارثة: أي قُتل في غزوة بدر.
● وهو غلام: أي شاب في ريعان الشباب.
● عرفت منزلة حارثة مني: أي تعلمين مكانته من قلبي ومقدار حبي له.
● أصبر وأحتسب: أصبر على فقده، وأحتسب الأجر من الله تعالى.
● وإن تكن الأخرى: أي إن كان مصيره غير الجنة (وهي النار، لا سمح الله).
● تر ما أصنع: انظري ماذا أفعل؟ (كناية عن شدة حزنها وجزعها).
● ويحك: كلمة تقال للتحسر والترحم، وهي هنا للتعجب من سؤالها.
● أوهبلت: أي هل جُننتِ أو فقدتِ عقلك؟ (من الهبل الذي يعني قلة العقل)، وهي على سبيل التلطيف والمواساة، لا الذم.
● أوجنة واحدة هي؟: استفهام إنكاري، أي ليس هناك جنة واحدة فقط.
● جنان كثيرة: أي درجات وأنواع متعددة في الجنة.
● جنة الفردوس: هي أعلى درجة في الجنة، وأوسطها، وأفضلها، كما جاء في الحديث: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة» [رواه البخاري].

---

ثالثاً. شرح الحديث:

تخبرنا أم المؤمنين أنس بن مالك رضي الله عنه أن شاباً اسمه حارثة بن سراقة قد استشهد في غزوة بدر الكبرى. وكان فتىً في مقتبل العمر. فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي في حالة من الحزن والألم، وسألته سؤالاً يعبر عن عمق حبها لابنها وخوفها على مصيره.
فقالت: يا رسول الله، أنت تعلم كم أحب حارثة ومكانته من قلبي. فإن كان قد نال الشهادة وهو في الجنة، فسأصبر على فراقه وأرجو الأجر من الله. ولكن إن كان مصيره غير ذلك (أي النار)، فانظري إلى حالي وكيف سأتحمل هذا المصير المفجع؟
فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم بردٍّ عجيب، يحمل في طياته:
1- المواساة واللطف: حيث بدأ بقوله (ويحك) وهي كلمة تحمل العطف والرحمة.
2- التعجب من ظنها: باستفهامه (أوهبلت) الذي يعني "هل فقدتِ عقلك من شدة الحزن حتى تسألي مثل هذا السؤال؟"، ليس ذماً لها، بل لتخفيف وطأة الحزن عنها وتنبيهها إلى عظمة الله وكرمه.
3- التعليم والتبشير: حيثبين لها صلى الله عليه وسلم أن الجنة ليست درجة واحدة، بل هي درجات كثيرة ومتعددة، يعلو بعضها بعضاً في الفضل والنعيم.
4- البشرى المباشرة: ثم ختم كلامه بالبشرى العظيمة التي تطيب بها خاطرها وتذهب حزنها، فأخبرها أن ابنها حارثة ليس في أي جنة، بل هو في جنة الفردوس، وهي أعلى منزلة في الجنان، مما يدل على علو مكانته وصدق إيمانه.

---

رابعاً. الدروس والعبر المستفادة:

1- علو منزلة الشهداء: الحديث دليل واضح على أن من قُتل في سبيل الله صادقاً مخلصاً فهو من أهل الجنة، بل من أعلى درجاتها.
2- سعة فضل الله وكرمه: فالجنة ليست مكاناً واحداً، بل هي درجات يتفاضل فيها أهلها بحسب أعمالهم وإيمانهم.
3- فضل جنة الفردوس: ينبغي للمسلم أن يسأل الله الفردوس الأعلى، فهي أفضل الغرف وأعلى الدرجات.
4- حسن تعامل النبي صلى الله عليه وسلم: حيثواسى الأم الحزينة بلطف وعطف، ولم يعنفها على سؤالها، بل صحح مفهومها وبشرها بما يسر الخاطر.
5- قوة إيمان الصحابة: رغم أن حزن الأم الشديد، إلا أن إيمانها جعلها تستحضر احتمالية الصبر والاحتساب إن كان ابنها في الجنة.
6- الجمع بين الصبر والاحتساب: فهما سلاح المؤمن عند المصيبة، يصبر على أقدار الله ويحتسب الأجر عنده.

---

خامساً:

معلومات إضافية:
● حارثة بن سراقة هو أخو الصحابي الجليل عمار بن ياسر رضي الله عنهما لأمه.
- استشهد في غزوة بدر والتي كانت في السنة الثانية للهجرة، وكانت معركة فاصلة بين الحق والباطل.
- هذا الحديث يرد على من ينكر وجود درجات في الجنة، ويؤكد ما جاء في القرآن الكريم: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف: 19].
أسأل الله تعالى أن يتقبل شهداءنا، ويلحقنا بهم في أعلى جنات الفردوس، وأن يرزقنا الصبر والاحتساب عند المصائب.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.