من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا حديث عظيم من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، يبشر المؤمنين بالجنة ويحدد أعلى مراتبها. وسأشرحه لك جزءاً جزءاً مستعيناً بالله، معتمداً على كبار شراح الحديث مثل النووي وابن حجر وغيرهم.
### أولاً. نص الحديث ومصدره
هذا الحديث رواه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير. وهو من الأحاديث الصحيحة في فضل الجهاد وعلو منزلة المجاهدين.

---

ثانياً. شرح المفردات:

● حَقًّا عَلَى اللَّهِ: أي واجباً على الله تعالى بحسب وعده الصادق الذي لا يخلف، وهو من باب الالتزام بالوعد لا الإلزام عليه سبحانه.
● هَاجَرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: الهجرة هي الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام طلباً لمرضاة الله.
● مائة دَرَجَة: المراد بالدرجات هنا: المراتب والمنازل العالية في الجنة، وليست الدرج المعتاد، بل هي عظيمات في القدر والفضيلة.
● الفردوس: هو اسم لأعلى بستان في الجنة، وأعلى مكان فيها.
● عَرْشُ الرَّحْمَن: هو أعظم المخلوقات، وهو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو سقف الجنة.

---

ثالثاً. شرح الحديث:

يقع شرح الحديث في عدة نقاط:
1- الوعد العام بالجنة: يبدأ الحديث ببيان أن من جمع بين ثلاثة أمور فقد استحق الجنة بحول الله وقوته:
● الإيمان بالله ورسوله: وهو أساس الدين، ويتضمن الإيمان بالقلب، والنطق بالشهادة، والعمل بالأركان.
● إقامة الصلاة: والمقصود المحافظة عليها بأركانها وواجباتها ومواقيتها بخشوع وتدبر.
● صيام رمضان: وهو الصيام المفروض مع اجتناب المفطرات الحسية والمعنوية.
فمن فعل هذه الأركان الأساسية، فقد استحق دخول الجنة بفضل الله ورحمته، سواء قام بفريضة الهجرة أم لم يقم، وسواء جاهد في سبيل الله أم لم يجاهد، وهذا من فضل الله تعالى على عباده.
2- تفاضل أهل الجنة: عندما سمع الصحابة رضي الله عنهم هذا الوعد العظيم، فرحوا واقترحوا إخبار الناس ليكون حافزاً لهم، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن في الجنة مائة درجة (مرتبة)، أعدها الله للمجاهدين في سبيله خاصة. وهذا لا ينافي دخول غيرهم الجنة، بل يدل على أن المجاهدين سيدخلونها بأعلى المراتب.
3- علو منزلة المجاهدين: ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم عظم هذه الدرجات، فبين كل درجتين مسافة كما بين السماء والأرض، وهي مسافة هائلة لا يتخيلها عقل، مما يدل على السعة العظيمة للجنة، والفروق الهائلة في المنازل بين أهلها حسب أعمالهم.
4- ذروة سنام الجنة (الفردوس): ثم وجه النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة وأمته إلى أن يسألوا الله أعلى هذه المنازل وأفضلها، وهو الفردوس. ووصفه بأربع صفات:
● أَوْسَطُ الجنة: أي أفضلُها وأعدلُها وأكملُها، فخير الأمور أوسطها. وقيل: أي أعلاها.
● أَعْلَى الجنة: وهذا بيان للصفة السابقة.
● فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَن: وهذا دليل على علوِّه وسموِّ مكانته، فما كان أقرب إلى العرش كان أشرف.
● مِنْهُ تَفْجُرُ أَنْهَارُ الجنة: أي أن الأنهار الرئيسة التي تسقي جميع أنحاء الجنة تنبع من الفردوس، مما يدل على مركزيته وعلو شأنه.

---

رابعاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- سعة فضل الله ورحمته: حيث جعل دخول الجنة منوطة بأصول الإيمان والعمل الصالح، وهي within متناول الكثيرين.
2- تفاضل الأعمال والدرجات: فالجنة ليست درجة واحدة، بل فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأعلاها للمجاهدين في سبيل الله.
3- فضل الجهاد في سبيل الله: فهو من أعظم القربات وأكسبها للأجر والدرجات العالية، وهو ذروة سنام الإسلام.
4- الحث على سؤال الله الفردوس: ينبغي للمسلم أن يكون همّه الأعلى، وأن يجعل من دعائه الدائم: "اللهم إني أسألك الفردوس الأعلى".
5- الحكمة في عدم إظهار كل الفضل: لم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة بإخبار الناس بهذا الوعد العام كي لا يتكل الناس على الفضل ويتركوا السعي لنيل الدرجات العلى بالجهاد والهجرة. ففي التشجيع على الأعلى والأفضل حكمة بالغة.

---

خامساً:

خلاصة:
يؤكد هذا الحديث على أن تحقيق أصول الإيمان والعمل الصالح يضمن للمسلم دخول الجنة بفضل الله، ولكنه يحث في الوقت نفسه على المنافسة في الأعمال الصالحة التي ترفع الدرجات، وعلى رأسها الجهاد في سبيل الله، والسعي لنيل أعلى المنازل وهي الفردوس الأعلى.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الجنة، ويرزقنا الفردوس الأعلى من غير عذاب ولا حساب.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.