لا تصل لكم من بصق في القبلة

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله خاتم النبيين وإمام المتقين.
أما بعد، فإليك شرح هذا الحديث النبوي الشريف شرحاً وافياً، معتمداً على كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة، مع بيان دروسه وعبره.

---

الحديث:

عن أبي سهلة السائب بن خلاد -من أصحاب النبي ﷺ- أن رجلاً أمَّ قوماً فبصق في القبلة، ورسول الله ﷺ ينظر، فقال رسول الله ﷺ حين فرغ: «لا يُصلِّي لكم». فأراد بعد ذلك أن يُصلِّي لهم، فمنعوه وأخبروه بقول رسول الله ﷺ، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فقال: «نعم». وحَسِبتُ أنه قال: «إنك آذيت الله ورسوله».

---

1. شرح المفردات:

● أمَّ قوماً: أي إماماً لهم في الصلاة، يقودهم ويقتدون به.
● بصق في القبلة: البصق هو إخراج اللعاب أو النخامة من الفم. والقبلة هي جهة الكعبة التي يتوجه إليها المسلمون في صلاتهم.
● حين فرغ: أي عندما انتهى من الصلاة.
● لا يُصلِّي لكم: أي لا يتقدم لإمامتكم في الصلاة، أو لا تقبلوا منه أن يكون إماماً لكم.
● فمنعوه: منعوه من التقدم للإمامة.
● حَسِبتُ أنه قال: أي ظن الراوي أو ترجح عنده أن النبي ﷺ قال هذه الزيادة.

---

2. المعنى الإجمالي للحديث:

يخبر الصحابي الجليل السائب بن خلاد رضي الله عنه عن حادثة وقعت في عهد النبي ﷺ، حيث تقدم رجل ليكون إماماً لجماعة من المسلمين في الصلاة. وأثناء صلاته بهم، قام بفعل غير لائق وهو البصق في اتجاه القبلة (أي نحو الكعبة)، وكان النبي ﷺ حاضراً ينظر إلى هذا الموقف.
فلما انتهت الصلاة، وبَّخ النبي ﷺ هذا الفعل وأمر الجماعة بألا يقبلوا هذا الرجل إماماً لهم في المستقبل، فقال: «لا يُصلِّي لكم»، أي لا تتركونه يتقدم لإمامتكم مرة أخرى.
وبعد ذلك، حاول هذا الرجل أن يتقدم للإمامة مرة أخرى، فامتثل القوم لأمر النبي ﷺ ومنعوه من ذلك، وأخبروه بقول النبي ﷺ فيه. فذهب الرجل إلى النبي ﷺ يشكو ما حدث، فأكد النبي ﷺ قوله السابق وقال: «نعم» (أي نعم، قلت ذلك)، وزاد عليه -على حسب ظن الراوي- بتعليل هذا المنع فقال: «إنك آذيت الله ورسوله».

---

3. الدروس المستفادة والفقه في الحديث:

1- تعظيم حرمات الله وشعائره: البصق تجاه القبلة استخفاف بجهتها التي هي من أعظم شعائر الإسلام، وقد سماها الله تعالى في القرآن "القبلة التي كنت عليها". فاستقبالها في الصلاة من أعظم الأمور، واستقذارها بالبصاق إيذاء لله ولرسوله.
2- وجوب الإنكار على من فعل قبيحاً في الصلاة: النبي ﷺ أنكر على هذا الرجل فعله، ولم يسكت عنه، مما يدل على وجوب إنكار المنكر ولو كان في الصلاة.
3- الإمامة أمانة ومسؤولية: لا يستحق الإمامة كل أحد، بل يشترط فيها الدين والخلق الحسن والوقار. ومن فعل ما ينافي الأدب مع الله لم يكن أهلاً لها.
4- الطاعة المطلقة للنبي ﷺ: الصحابة رضوان الله عليهم لما سمعوا النهي من النبي ﷺ عن إمامة هذا الرجل، امتثلوا فوراً ومنعوه عندما حاول التقدم، دون تردد أو تأويل.
5- الحكمة من حرمانه الإمامة: العقوبة من جنس العمل. لأنه أساء الأدب مع القبلة، وهي من شعائر الصلاة، فحرم من الإمامة التي هي ركن من أركان الصلاة الجماعية.
6- إثبات صفة الأذى لله على ما يليق بجلاله: قوله: «إنك آذيت الله ورسوله» من أحاديث الصفات، نؤمن بها كما جاءت على الوجه اللائق بجلال الله تعالى من غير تشبيه ولا تعطيل.
7- الجرأة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: موقف الصحابة في منع الرجل من الإمامة بعد علمهم بأمر النبي ﷺ يدل على الشجاعة في الحق.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

● حكم البصق في القبلة في الصلاة: ذهب العلماء إلى كراهة البصق في القبلة مطلقاً، سواء في الصلاة أو خارجها، لكونها جهة التعظيم. وأما في الصلاة، فالبصق فيها مكروه باتفاق، والأولى أن يبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى إذا دعت الحاجة.
● الفرق بين النهي عن الإمامة والمنع من الصلاة: قوله ﷺ «لا يُصلِّي لكم» ليس منعاً من الصلاة مطلقاً، بل منع من التقدم للإمامة. فهو يصلي لنفسه ولكن لا يتقدم للجماعة.
● الرواة: هذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجه، والحاكم، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي.

---

الخلاصة:

هذا الحديث يعلمنا الأدب مع الله ورسوله وشعائر الدين، ويؤكد على أن الإمامة منصب ديني عظيم لا يُعطى إلا لمن هو أهل له في دينه وأخلاقه. وهو درس بليغ في ضرورة احترام أماكن الصلاة وشعائرها، وأن مخالفة ذلك تؤدي إلى الحرمان من الخير والفضل.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.