يحشر الناس على ثلاثة أفواج

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أهلاً وسهلاً بك أيها السائل الكريم، وأسأل الله أن يوفقنا جميعاً لفهم سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والعمل بها.
هذا حديث عظيم يرويه الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، وهو من الأحاديث التي تُصور مشاهد من أهوال يوم القيامة، وسأشرحه لك جزءاً جزءاً مستنداً إلى كبار شراح الحديث مثل النووي وابن حجر وغيرهم.

---

أولاً. شرح المفردات:

● قام أبو ذر، فقال: يا بني غفار: أبو ذر من قبيلة غفار، فهو ينصح قومه ويوجههم.
● الصادق المصدوق: هو النبي صلى الله عليه وسلم، فالصادق في قوله، المصدوق من قبل الله تعالى.
● يحشرون: يُجمعون يوم القيامة للمحاسبة.
● أفواج: جماعات.
● راكبين طاعمين كاسين: الراكبون: من ركب الدابة، الطاعمون: من أكل ما يشتهيه، الكاسون: من لبس الثياب الفاخرة.
● يمشون ويسعون: يمشون على أرجلهم بسرعة وجهد.
● تسحبهم الملائكة على وجوههم: تجرهم وتقودهم إلى النار ووجوههم على الأرض.
● الآفة: الهلاك والدمار.
● الظهر: هنا指 الدواب التي يركبونها.
● الحديقة المعجبة: البستان الجميل الذي يعجب صاحبه.
● الشارف ذات القتب: الشارف: الناقة المسنة، القتب: هو الرحل الذي يوضع على ظهر البعير للركوب. والمعنى: يعطي بستانه الجميل مقابل ناقة عجوز قديمة لها رحل فقط.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يخبرنا الصحابي أبو ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حدثه أن الناس يوم القيامة سيبعثون ويُحشرون إلى أرض المحشر على ثلاث فئات مختلفة تماماً في حالها:
1- الفوج الأول: فوج راكبين طاعمين كاسين: هؤلاء هم المؤمنون الأتقياء الذين أطاعوا الله ورسوله في الدنيا. سيركبون دواب من نعيم الجنة، ويأكلون من طعامها، ويلبسون من حللها، في نعيم وسعادة وأمان، وهم في طريقهم إلى الجنة. هذا جزاء إيمانهم وعملهم الصالح.
2- الفوج الثاني: فوج يمشون ويسعون: هؤلاء هم عامة الناس من المسلمين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً. سيمشون على أقدامهم إلى أرض المحشر بجهد ومشقة، وسيعانون من شدة الموقف ورهبته. مشيهم وسعيهم دليل على التعب والمشقة التي سيلاقونها، ولكن مصيرهم في النهاية سيكون إلى الجنة بعد أن يُحاسبوا ويُغفر لهم بفضل رحمة الله.
3- الفوج الثالث: فوج تسحبهم الملائكة على وجوههم: هؤلاء هم الكفار والمنافقون الذين ماتوا على الكفر والشرك. سيجرهم ملائكة العذاب إلى نار جهنم ووجوههم على الأرض، إهانةً لهم وتحقيقاً لوعد الله تعالى بالعذاب المهين. هذا جزاء كفرهم وعنادهم.
ثم ينقل أبو ذر رضي الله عنه سؤالاً من الحاضرين: فهموا حال الأتقياء (الراكبين) وحال الكفار (المسحوبين)، لكنهم استشكلوا حال الفئة الوسطى (الذين يمشون ويسعون)، فما شأنهم؟
فأجاب أبو ذر مبيناً سبب مشيهم ومشقته، وهو أن الله تعالى سيبلي الدنيا كلها ويهلك كل دواب الركوب قبل يوم القيامة. حتى أن الرجل الغني الذي يملك بستاناً قيمته عالية جداً، سيُضطر أن يعطيه كلها مقابل أن يحصل على ناقة عجوز هزيلة لها رحل فقط ليركبها، ولكن حتى هذه لن يقدر عليها ولن يجدها بسبب شدة البلاء وندرة الوسائل. فإذا كان هذا حال الأغنياء، فكيف بغيرهم؟ لذلك سيمشي معظم الناس على أقدامهم.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- اليقين بيوم القيامة وأهواله: الحديث يصور مشهداً من مشاهد القيامة ليزيد إيماننا ويقيننا باليوم الآخر، ويحفزنا على الاستعداد له بالأعمال الصالحة.
2- تفاوت الجزاء بحسب العمل: الجزاء في الآخرة على قدر العمل في الدنيا. فالمتقون في نعيم، والعصاة في مشقة ثم مغفرة، والكفار في عذاب مهين.
3- الحث على التمسك بالإيمان والتقوى: طريق النجاة والنجاة من أهوال ذلك اليوم هو الإيمان الصادق والعمل الصالح.
4- ذم التكاثر الدنيوي والتعلق بالمال: الحديث يذكرنا بهلاك الدنيا وزوالها، وأن كل ما فيها سيندثر ولا قيمة له في ذلك اليوم، فلا ينبغي أن نغتر بها أو نتعلق بها.
5- فضل الصدق والصدِّيقية: وصف النبي صلى الله عليه وسلم بـ "الصادق المصدوق" يذكرنا بضرورة تصديق كل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

● مصدر الحديث: رواه الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي.
● المراجع المعتمدة: تم الاعتماد في الشرح على "فتح الباري" لابن حجر، و"شرح النووي على صحيح مسلم" عند شرحه للأحاديث المتعلقة بأشراط الساعة، وكتب العقيدة السلفية.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من الفوج الأول، الر