لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
حياكم الله و بياكم، و نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا و أن ينفعنا بما علمنا و أن يزيدنا علما وفقها في الدين، وأن يغفر ذنوبنا ويستر عيوبنا ويجعلنا هداة مهتدين.
الحديث الذي طلبت شرحه: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ».
هذا حديث عظيم من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، يحمل معنىً كبيراً في قالب لفظي صغير. وهو جزء من حديث أطول رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.

---

أولاً. شرح المفردات:

* لا تحقرن: "لا" الناهية. "تحقرن": من الاحتقار، وهو الاستصغار وعدم الاكتراث. والمعنى: لا تستصغرن ولا تستهينن.
* جارة لجارتها: أي لا تستصغر إحداهن ما تهديه أو تعطيه لجارتها.
* فِرْسِن: (بكسر الفاء وسكون الراء) هو الظلف، أي الحافر أو الخف للشاة، وهو العظم القليل اللحم الذي في أسفل رجل الشاة. وهو شيء تافه قليل القيمة في نظر الناس.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم النساء المسلمات بشكل خاص، لما للجوار من أهمية عظيمة في حياتهن، ولما قد يقع بينهن من مجاملات أو تقصير فيها.
المعنى الإجمالي: ينهاهن النبي صلى الله عليه وسلم عن أن تستصغر أيٌّ منهن ما تقدمه لجارتها من هدية أو معروف، ولو كان هذا المعروف شيئاً تافهاً لا قيمة له في أعين الناس، كأن تهديها ظلف شاة (أي قطعة لحم صغيرة جداً ليس فيها شيء يذكر). فليس المهم قيمة العطاء المادية، بل المهم نبل المقصد وسمو المعنى الذي يحمله هذا العطاء، وهو توطيد أواصر المحبة والجوار، وإدخال السرور على القلب، ودفع الضغائن.
لماذا خصص الخطاب للنساء؟
ليس لأن الرجال لا يدخلون في هذا الحكم، بل الحكم عام للرجال والنساء، ولكن خصص النبي صلى الله عليه وسلم النساء بالخطاب لسببين:
1- شدة احتياجهن لذلك: لأن مجالس النساء وتقاربهن في السكن قد يكثر معه التهاون في حقوق الجوار، أو الاحتقار للهدية البسيطة.
2- الميل الفطري لديهن للمقارنة والمفاضلة: فربما تمتنع إحداهن عن إهداء جارتها لأن هديتها بسيطة أمام ما تهديه غيرها، فجاء النهي لقطع هذا الوسواس.
لماذا مثل بـ "فِرْسِن شاة"؟
لأنه يمثل أدنى ما يمكن أن تهديه امرأة لجارتها، شيء لا يكاد يذكر، ومع ذلك يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم احتقاره، لأنه:
* سبب للمودة: فالقليل الدائم خير من الكثير المنقطع.
* علامة على حسن النية: وتذكر الجارة لجارتها، وهذا في ذاته هدية معنوية كبيرة.
* يغلق باب الشيطان: الذي يوسوس للجارة بأن جارتها تحتقرها فلا تهديها إلا القليل، أو يوسوس للمهداة إليها بأن المهدية تحتقرها بهذه الهدية التافهة.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- الحث على صلة الجوار والإحسان إليه: فالحديث يأمر بالإهداء ولو بالقليل، فمن باب أولى الأمر بالإحسان بالكلام والزيارة والمساعدة في الشدائد.
2- عدم احتقار أي معروف: مهما كان صغيراً في عين صاحبه أو في عين الناس، فالله تعالى يتقبل القليل ويضاعف الأجر عليه، والنفوس الكريمة تقدر المعروف regardless of its size.
3- تطهير النفوس من الكبر والاستعلاء: فالناهي عن احتقار الهدية البسيطة هو في الحقيقة نهي عن احتقار الآخذ لها، وتطهير للقلب من مشاعر التعالي.
4- تفاضل الناس بقدر إحسانهم لا بقدر أعطياتهم: فرب إنسان يعطي الكثير لكنه لا يمنّ به ولا يحتقره، وآخر يعطي القليل لكنه يعطيه بحسن خلق وابتسامة، فيكون أثره أعظم.
5- التواضع ولين الجانب: فالمسلم يتواضع في عطيته كما يتواضع في كل أحواله.
6- مراعاة مشاعر الآخرين: فإهداء القليل مع الحفاوة به خير من عدم الإهداء أساساً، الذي قد يفسر على أنه جفاء أو تجاهل.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

* حكم الحديث: حديث صحيح متفق عليه (أي رواه البخاري ومسلم).
* السياق الأوسع: جاء هذا المقطع في سياق خطبة طويلة للنبي صلى الله عليه وسلم للنساء، نهاهن فيها عن التبذير والإسراف، وحثهن على الصدقة ولو من حليهن، ثم نهاهن عن احتقار المعروف ولو كان قليلاً.
* تطبيقات معاصرة: ينطبق هذا الحديث على جميع أشكال العطاء اليوم، مثل:
* عدم احتقار المساعدة البسيطة للجار (كإعارة شيء تافه).
* عدم الاستهانة بكلمة طيبة أو دعوة أو مشاركة منشور مفيد.
* تقدير أي مجهود يصب في خدمة العلاقات الاجتماعية، مهما بدا بسيطاً.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يتواضعون في عطائهم، ويقدرون معروف الآخرين، ويحسنون إلى جيرانهم، إنه سميع مجيب.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وص