من كثرة مراجعتي إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، وأسأل الله أن ينفعنا بما ندرس ونفهم من سنة نبينا ﷺ.
هذا الحديث العظيم الذي روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو موجود في صحيح البخاري (رقم 3655) وصحيح مسلم (رقم 2382)، يفتح لنا نافذة على حدث عظيم من أحداث السيرة النبوية، ويُظهر عمق الفقه السياسي والإيماني لدى الصحابة رضوان الله عليهم.

---

أولاً. شرح المفردات:

* راجعت: من المراجعة، أي كررت السؤال والمناقشة فيه.
* قام مقامه: أي خلفه في قيادة الأمة وإمامتها بعد وفاته.
* تشاءم الناس به: من الشؤم، أي رأوا فيه نذير شؤم وشر لاختلافهم عليه وعدم استقرار أمرهم.
* يعدل ذلك: أي يصرف الأمر عن أبي بكر، أو يجعل غيره خليفة.

---

ثانيًا. شرح الحديث:

السياق التاريخي للحديث:
يأتي هذا الحديث في سياق مرض النبي ﷺ الذي توفي فيه. فقد شعر الصحابة رضي الله عنهم بدنو أجله ﷺ، فبدأوا يفكرون في مصير الأمة من بعده، ومن يكون القائد الذي يجمع شملهم. وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها ترى أن والدها أبا بكر الصديق هو الأحق والأجدر بهذا المقام، ولكنها تخشى عاقبة الأمر.
شرح المعنى:
تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: إنها أكثرت من مناقشة رسول الله ﷺ ومراجعته في مسألة الخلافة من بعده.
ثم تذكر سببين دفعاها لهذه المراجعة:
1- السبب الأول (القلبي والعقائدي): "ما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلاً قام مقامه أبدًا".
* هنا يتجلى إيمان عائشة العميق بمكانة النبي ﷺ. فقلبها كان يرفض أن يحل أي إنسان – مهما بلغ من الفضل – محل النبي ﷺ في قلوب الناس وقائديتهم. فمحبة الرسول ﷺ وقيادته فريضة وخاصية لا تُعطى لأحد غيره. فهي لا تقلل من شأن أبي بكر، بل ترفع من شأن النبي ﷺ إلى مكانه الذي لا يضاهيه فيه أحد.
2- السبب الثاني (السياسي والواقعي): "وإلا أني كنت أرى أنه لن يقوم مقامه أحد إلا تشاءم الناس به فأردت أن يعدل ذلك رسول الله ﷺ عن أبي بكر".
* هنا فقه سياسي عميق من امرأة من أهل البيت. كانت تدرك أن من يتولى أمر الأمة بعد النبي سيواجه تحدياً جسيماً، فالناس قد اعتادوا على قيادة معصومة بوحي من الله، فمن يخلفه سيقاس بذلك المقياس العالي وقد يجد من يعترض عليه أو يختلف معه. خشيت أن يصيب الناس "تشاؤم" وفتنة إذا رأوا اختلافاً أو تقصيراً – وهو أمر طبيعي لأي بشر – فيحملوا ذلك على الخليفة ويقولوا: "لو كان النبي حياً لما حدث هذا". فأرادت رضي الله عنها أن تُبعد والدها عن هذا الموقف الصعب والمحنة، وتحفظه من أن يكون محلاً للتشاؤم واللوم من بعض الناس.
فلم يكن هدفها الطعن في أهليته، بل حماية والدها والأمة من شر محتمل. ولكن إرادة الله كانت غير ذلك، فقد اختار الله أبا بكر لهذا المقام العظيم.

---

ثالثًا. الدروس المستفادة والعبر:

1- مكانة النبي ﷺ التي لا تدانيها مكانة: الحديث يؤكد أن مكانة النبي ﷺ في قلوب أصحابه وأمته هي مكانة فريدة، لا يصل إليها بشر، وأن قيادته معصومة بوحي من الله، وهي تختلف عن قيادة الخلفاء الراشدين التي هي بالاجتهاد والمشورة.
2- فقه السيدة عائشة وبُعد نظرها: يظهر لنا عمق فهم السيدة عائشة رضي الله عنها للنفوس البشرية والواقع السياسي، وقدرتها على توقع المشكلات قبل وقوعها. وهذا من بركات تربيتها في بيت النبوة.
3- مكانة أبي بكر الصديق رضي الله عنه: رغبة عائشة في أن يعدل النبي عن أبي بكر هي في الحقيقة دليل على عظم منزلته، لأنه كان المرشح الأول والطبيعي للمقام، حتى في تقديرها هي. وقد نَصَبَه النبي ﷺ إماماً للناس في الصلاة في مرضه، وهي إشارة عظيمة إلى أهليته للقيادة.
4- الحكمة من عدم تسمية النبي ﷺ خليفةً صراحة: هذا الحديث يوضح حكمة النبي ﷺ في ترك أمر الخلافة شورى بين المسلمين، وعدم تعيين شخص معين. فلو عين شخصاً لقال الناس: إنما نجح لأن النبي عينه. ولكن ترك الأمر للشورى جعل اختيار أبي بكر اختياراً جماعياً، ثابت الأركان، قوي الحجة، فأزال أي شبهة أو تشاؤم محتمل.
5- حب الأبناء للآباء: نرى في موقف عائشة نموذجاً رفيعاً للبرّ والشفقة على الوالد، حيث كانت تريد أن تحميه من أي أذى أو مشقة قد تلحق به.

---

رابعًا. معلومات إضافية مفيدة:

* هذا الموقف يدل على أن مسألة الخلافة كانت محط تفكير الصحابة حتى قبل وفاة النبي ﷺ، مما يدحض أي روايات تزعم أنهم فوجئوا بوفاته ولم يفكروا فيمن يخلفه.
* اختيار أبي بكر كان اختياراً موفقاً بارك الله فيه، فقد استطاع بحكمته وثباته أن يجمع