إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب. هذا حديث عظيم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخبر فيه عن غيب مستقبلي، ويعد من معجزاته التي تحققت كما أخبر.

---

الحديث بلفظه:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَنْفُقُنَّ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
رواه البخاري في صحيحه (كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نُصِرْتُ بِالصَّبَا") ومسلم.

---

الشرح التفصيلي:

---

# أولاً. شرح المفردات:

● هَلَكَ: مات، أو زال مُلْكُه وانتهت دولته.
● كِسْرَى: هو لقب ملوك الفرس (الإمبراطورية الساسانية)، وكانوا أعظم قوة في زمانهم إلى جانب الروم.
● قَيْصَرُ: هو لقب أ emperors الروم (الإمبراطورية البيزنطية).
● فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، فَلَا قَيْصَرُ بَعْدَهُ: أي أن نظام حكمهم القائم على التوريث والإمبراطورية المطلقة سينتهي، ولن يقوم لهما نظام مماثل بعدهما.
● لَتَنْفُقُنَّ: لأَنْفَقَنَّ، من الإنفاق، أي لَتُصْرَفَنَّ.
● كُنُوزَهُمَا: كنوزهما جمع كنز، وهو المال المدخر والمجمَّع في خزائن الدولة.
● فِي سَبِيلِ اللَّهِ: يشمل جميع أوجه الخير والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله، من إعداد الجيوش، وإغناء الفقراء، وبناء المصالح العامة للمسلمين.

---

# ثانيًا. شرح الحديث:

يخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن أمر غيبي سيقع في المستقبل، وهو:
1- زوال ملكي كسرى وقيصر: يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الإمبراطوريتين العظيمتين في زمانه (فارس والروم) ستهلكان وينتهي نظام حكمهما الاستبدادي الذي يورث فيه الملك لسلالة واحدة، ولن تقوم لهما قائمة بعد ذلك. وهذا تحقق فعلاً:
● كسرى: قُتِلَ آخر ملوك الفرس (كسرى) على يد ابنه شيرويه، ثم توالى القتل والاضطرابات حتى فتح المسلمون بلاد فارس في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وانتهت إمبراطوريتهم إلى الأبد.
● قيصر: استمرت دولة الروم ولكنها ضعفت وتقلصت على مر العصور حتى سقطت عاصمتهم القسطنطينية على يد المسلمين بقيادة السلطان محمد الفاتح سنة 1453م، وانتهت إمبراطوريتهم بشكلها القديم.
2- إنفاق كنوزهما في سبيل الله: هذا بشارة عظيمة بأن أموال هاتين الإمبراطوريتين وكنوزهما العظيمة ستصبح غنيمة للمسلمين، وينفقها الخلفاء والقادة في وجوه الخير والجهاد لنصرة دين الله. وقد تحقق هذا بالفعل في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث فُتحت بلاد فارس والعراق والشام، وأُدخلت أموالها وكنوزها في بيت مال المسلمين، وأنفقت في مصالح المسلمين العامة، من عطاء للجنود، وبناء للمساجد، وحفر للأنهار، وإغناء للفقراء.
3- القسم بالنبي صلى الله عليه وسلم: قال: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ) وهذا قسم منه صلى الله عليه وسلم لتأكيد صدق هذه البشارة ووقوعها حتمًا، مما يدل على عظم هذا الخبر ويقينه صلى الله عليه وسلم به.

---

# ثالثًا. الدروس المستفادة والعبر:

1- صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: الحديث من معجزاته الغيبية التي أخبر عنها قبل وقوعها بسنين طويلة، فتحققت كما قال، وهذا دليل قاطع على صدقه وأنه رسول من عند الله.
2- بشارة بنصرة الإسلام: الحديث بشارة من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بنصرة دين الله وعلو كلمته، وانتصارهم على أعظم قوتين في زمانهم.
3- زوال الدنيا وعدم خلودها: فيه إشارة إلى أن الدنيا زائلة، وأن القوة والمال والسلطان لا يدوم لأحد، ولو بلغ ما بلغ من القوة والعظمة، فكسرى وقيصر ذهب ملكهما وبقيت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تترى.
4- الحث على الإنفاق في سبيل الله: فيه حث للأمة على بذل المال في طاعة الله ونصرة دينه، وأن هذا هو المصير الحقيقي للثروات، أن تُصرف في مرضاة الله.
5- الثقة بوعد الله: على المسلم أن يكون واثقاً بنصر الله ووعده، حتى لو كانت القوى الظاهرة ضدهم، فالله ناصر دينه.

---

# رابعًا. معلومات إضافية:

- هذا الحديث رواه البخاري ومسلم، فهو حديث صحيح متفق عليه.
- كان هذا الحديث مصدر قوة وثقة للمسلمين الأوائل، خاصة في ظل صراعهم مع هاتين القوتين العظميين.
- تحقق الوعد الأول بزوال ملك كسرى تماماً، أما قيصر (الروم) فقد استمرت دولة ولكنها تحولت وتغير نظام حكمها، وتحقق المعنى المقصود من زوال إمبراطوريتهم القديمة