قصة جليبيب

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإن حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه في قصة جليبيب من الأحاديث العظيمة التي تحمل دروسًا عميقة في الإيمان، والتواضع، والثقة في حكمة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها بيان لكرامة الأولياء وإن كانوا في أعين الناس صغارًا.

---

شرح المفردات:

● جليبيبا: هو اسم الرجل المذكور في الحديث، وكان من الصحابة رضي الله عنه.
● أيِّمٌ: المرأة التي لا زوج لها، سواء كانت بكرًا أم ثيبًا.
● نُعْمَ عيني: كلمة تعظيم وإكرام، أي هي قرة عيني ومسرتي.
● إنيه: كلمة استفهام تعجبية، كأنها تقول: أجبليبيب هذا؟! تعبيرًا عن الاستنكار والتعجب.
● لم يضيعني: أي لن يختار لي إلا الخير، ولن يضيعني الله على يديه.
● أفاء الله عليه: أي بعد انتهاء الغزوة وانتصار المسلمين.
● هذا مني وأنا منه: أي هو مني قريبًا، وأنا منه قريب، تعبيرًا عن المحبة والمنزلة العالية.
● أنفق: أي أكثر مالاً وجاهًا.

---

شرح الحديث:

تبدأ القصة بأن جليبيبا رضي الله عنه كان رجلاً متواضعًا ليس له منصب أو مال يلفت الأنظار، بل كان يدخل على النساء ويلاعبهن، مما دفع أبا برزة إلى التحذير من دخوله على النساء خشية الفتنة.
ثم ينتقل الحديث إلى عادة الأنصار التي تدل على تعظيمهم للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث كانوا لا يزوجون أيِّمهم حتى يعلموا هل يريدها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه أم لا.
وهنا تأتي المفاجأة: النبي صلى الله عليه وسلم يطلب من رجل من الأنصار أن يزوجه ابنته، فيسارع الأب بالموافقة طائعًا مسرورًا، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يبين أنه لا يريدها لنفسه، بل لجليبيب ذلك الرجل المتواضع.
يعود الأب إلى الأم ليشاورها، فترفض الأم رفضًا قاطعًا، متعجبة: كيف تزوج ابنتها لجليبيب؟! لكن الابنة التي سمعت الخبر تفاجئ الجميع بإيمانها العميق، فتقول: "أتريدون أن تردوا على رسول الله أمره؟ دفعوني فإنه لم يضيعني". فهي تثق ثقة عمياء في اختيار النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ثقة في حكمة الله تعالى، لأن النبي لا ينطق عن الهوى.
يتزوج جليبيب من هذه المرأة الصالحة، ثم يخرج في غزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي نهاية المعركة يفتقده النبي صلى الله عليه وسلم، فيأمر الصحابة بالبحث عنه، فيجدونه قد قتل سبعة من المشركين ثم قتلوه. فيقف النبي صلى الله عليه وسلم عند جثته ويقول: "هذا مني وأنا منه" ثلاث مرات، ثم يحفر له بيديه الشريفتين ويضعه في قبره دون أن يغسله (كما في بعض الروايات)، مما يدل على منزلته العظيمة عند الله ورسوله.
وينتهي الحديث بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم للزوجة بأن يصب الله عليها الخير صبًا، ولا يجعل عيشها كدًا (أي شاقًا)، فاستجاب الله الدعاء، وصارت من أكثر نساء الأنصار مالاً وبركة.

---

الدروس المستفادة:

1- عدم النظر إلى الظاهر: فجليبيب كان في أعين الناس رجلاً عاديًا بل ربما مستهجنًا، لكنه عند الله من الأولياء المقربين. وهذا درس في عدم احتقار الآخرين والحكم على الناس بمظاهرهم.
2- الثقة في حكمة النبي صلى الله عليه وسلم: موقف المرأة العفيفة يعلمنا الثقة المطلقة في اختيار النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يختار إلا الخير والبركة.
3- بركة الطاعة: لقد نالت المرأة البركة والمال الوفير بسبب طاعتها لله ورسوله، وقبولها بما قدره الله لها.
4- مكانة الشهداء: قصة جليبيب تظهر فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله، وأن الله يرفع بعبادة المتقين وإن كانوا في أعين الناس صغارًا.
5- تواضع النبي صلى الله عليه وسلم: حيث قام بنفسه بحفر القبر لجليبيب ووضعه فيه، مع علو منزلته صلى الله عليه وسلم.
6- قيمة الإيمان على المظهر والمال: فالنبي صلى الله عليه وسلم زوّجها لجليبيب لإيمانه وتقواه، لا لماله أو جاهه.

---

معلومات إضافية:

- جليبيب رضي الله عنه كان من الصحابة الذين لم تشهرهم الدنيا، لكنه كان عابدًا مجاهدًا، وقد رفع الله ذكره بهذه القصة.
- الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، وهو حديث صحيح.
- القصة تدل على أن الله ينظر إلى القلوب لا إلى الصور، فكم من شخصٍ مغمورٍ عند الناس وهو عند الله من المقربين.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا الإيمان والثقة بحكمته، وأن لا نحقر أحدًا من المؤمنين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.