الألد الخصم أبغض الرجال إلى الله

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
الحديث الشريف:
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ».
أخرجه البخاري (2457) ومسلم (2668).
شرح المفردات:
* أبغض: تفضيل في البغض، أي الأكثر بغضاً ومقتاً.
* الرِّجال: يشمل الذكور، ويُعَمَّم حكمه ليشمل النساء أيضاً، فالمقصود صفة ذميمة في الإنسان.
* الأَلَدُّ: هو الشخص المعاند الكثير الجدال والمماراة، الذي يصر على خطئه ويعاند بعد ظهور الحق، ولا يقبل المنطق السليم. يقال: "لَدَّ في حجته" إذا أعانَدَ وتَعَنَّتَ.
* الخَصِم: هو الكثير الخصومة والمشاجرة، الذي يكثر من الخصام والجدال من غير حاجة، ويحب الانتصار لنفسه حتى لو كان على باطل.
شرح الحديث:
يبيّن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث صفةً من أقبح الصفات التي يتصف بها الإنسان، وهي صفة "الخصومة والعناد". فـ "الألد الخصم" هو ذلك الشخص الذي:
1- يعاند بعد ظهور الحق: فلا يهدف من جداله الوصول إلى الحقيقة، بل يهدف إلى الانتصار لرأيه وهواه فقط، حتى لو كان على باطل واضح.
2- يُكثر الجدال بغير علم: فيدخل في المناقشات والمشاجرات الكلامية من غير فائدة، مما يثير الفتنة ويذهب بالمودة ويُضيع الوقت.
3- يُحاول قلب الحقائق: باستخدام الحيل اللفظية والمغالطات المنطقية لإثبات باطله وإبطال حق غيره.
فهذا الصنف من الناس يكون مبغوضاً إلى الله تعالى؛ لأن هذه الصفة تتعارض مع خلق المسلم الحق، الذي ينبغي أن يكون متسامحاً، متواضعاً، طالباً للحق، مقبلاً على الخير، مبتعداً عن المراء والجدال العقيم الذي لا طائل منه.
الدروس المستفادة والعبر:
1- ذم الجدال والعناد: يحذر الحديث من خُلُق الجدال والعناد، ويبين أن ذلك من الأمور التي توجب بغض الله تعالى للعبد، وهو أعلى درجات الذم.
2- طلب الحق والانصياع له: على المسلم أن يكون هدفه الوصول إلى الحق حيثما كان، لا الانتصار لذاته أو رأيه. فالحق أحق أن يُتَّبع.
3- التخلق بخلق النبي صلى الله عليه وسلم: كان النبي صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عن هذه الصفة، فلم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، ولا صخاباً (كثير الصياح) في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح.
4- الحكمة في المجادلة: ليس كل جدال مذموماً، بل الجدال بالتي هي أحسن لإظهار الحق ورد الشبهات مأمور به في القرآن: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. فالذم إنما هو للجدال بالباطل أو من أجل العِناد والهوى.
5- الحفاظ على العلاقات الاجتماعية: الخصومة والعناد يزرعان العداوة والبغضاء بين الناس، ويهددان تماسك المجتمع المسلم القائم على التراحم والتآلف.
أي معلومات إضافية مفيدة:
* يجمع هذا الحديث بين ذم صفتين: العناد (الألد) وكثرة الخصومة (الخصم)، مما يزيد في قبح هذه الخلة وشناعتها.
* ينبغي للمسلم أن يتجنب المواضع التي توقع في الجدال العقيم، وأن يتحلى بالسكينة والحلم، وإذا اضطر إلى المجادلة فليكن ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، مبتغياً وجه الله تعالى لا الانتصار الشخصي.
* من الأمثلة العملية على "الألد الخصم": الشخص الذي يصر على رأيه في أمور دينية واضحة بعد أن تبين له الدليل، أو الذي يحول النقاش الهادئ إلى معركة كلامية للتفوق على الآخرين فقط.
نسأل الله تعالى أن يبعد عنا هذه الصفة الذميمة، وأن يجعلنا من المتواضعين المنقادين للحق، الطالبين للرزق الحلال، البعدين عن المراء والجدال.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.