الثلث والثلث كثير

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
حياكم الله و بياكم أيها السائل الكريم، و نسأل الله تعالى أن يفتح لنا أبواب فضله وكرمه، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علما وفقها في الدين وارض عنا يا أكرم الأكرمين.
الحديث الذي تطلب شرحه هو حديث عظيم في بابه، يدل على رحمة النبي ﷺ بأمته وحرصه على مصلحتهم في الدنيا والآخرة. وهاك الشرح على النحو التالي:

### أولاً. نص الحديث ومصدره
● النص: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «لو أن الناس غَضُّوا من الثُّلُث إلى الرُّبُع؛ فإن رسول الله ﷺ قال: الثُّلُث، والثُّلُث كثير».
● المصدر: أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (كتاب الوصايا، باب الوصية بالثلث)، ومسلم في صحيحه (كتاب الوصية)، وغيرهما من أصحاب السنن.

### ثانياً. شرح المفردات
● غَضُّوا: أي نقصوا وقللوا. من الغَضّ، وهو الكف والترك والتقليل.
● الثُّلُث: هو جزء من ثلاثة، أي (1/3) من مجموع التركة.
● الرُّبُع: هو جزء من أربعة، أي (1/4) من مجموع التركة.
● كثير: أي كبير ووافر، وفيه معنى المبالغة والزيادة التي قد تشق على الورثة أو تكون فيها مشقة.

### ثالثاً. شرح الحديث ومعناه الإجمالي
يوجهنا ابن عباس رضي الله عنهما، حبر الأمة وترجمان القرآن، بهذه النصيحة الذهبية المستفادة من قول النبي ﷺ.
● معنى قول ابن عباس: «لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع»
هذا ليس أمراً إلزامياً، بل هو نصيحة وإرشاد حكيم. فالشريعة أباحت للإنسان أن يوصي بحد أقصى هو الثُلث، لكن ابن عباس يرى أن التقليل من هذه النسبة إلى الرُبع هو الأولى والأحوط والأرفق بالورثة.
● معنى قول النبي ﷺ: «الثلث، والثلث كثير»
هذا هو الأصل الذي استند إليه ابن عباس في نصيحته.
● «الثلث»: هذا هو الحد الأقصى الذي جعله الشرع للوصية، فلا يجوز للإنسان أن يوصي بأكثر من ثلث ماله. هذا تقدير حكيم من الشارع يحفظ حق الورثة ويحقق رغبة الموصي في الصدقة عن نفسه بعد موته.
● «والثلث كثير»: هنا تأتي النصيحة النبوية. فالنبي ﷺ يبين أن هذا القدر (الثلث) هو كبير وكافٍ، بل قد يكون كثيراً على الورقة. فهو يشير إلى أن التقليل عن هذا الحد هو الأفضل، مراعاةً لحال الورثة وعدم إيقاع الضرر بهم أو الإثقال عليهم.
فالمعنى الإجمالي: أن الشرع حدد أعلى مقدار للوصية بالثلث، لكن النبي ﷺ نبه إلى أن هذا المقدار كبير، والأفضل والأولى للمسلم أن يقتصد ويوصي بأقل من ذلك (كالربع أو الخمس) مراعاةً لحقوق ورثته وحاجاتهم.

### رابعاً. الدروس المستفادة والفقه في الحديث
1- الرحمة بالورثة وعدم إيذائهم: الحديث دليل عظيم على مراعاة حقوق الورثة وعدم تضييع أموالهم. فالمال الذي يتركه الإنسان بعد موته هو حق للورثة، والوصية استثناء من هذا الحق يجب أن لا يتوسع فيه بشكل يضر بهم.
2. ‏القصد والاعتدال في العبادة والإنفاق: الشريعة الإسلامية دائمًا تدعو إلى الاعتدال ورفع الحرج. فحتى في أبواب الخير والصدقة، فإن التوسط هو الأمر المحمود. فالإسراف في الوصية قد يضر بالورقة، والتقتير الشديد قد يحرم الموصي من أجر الصدقة الجارية، فكان الثلث حداً أعلى والربع ونحوه أولى.
3. ‏فقه الأولويات: ينبغي للمسلم أن يوازن بين فضل الصدقة وحقوق ورثته. فإذا كان ورثته فقراء محتاجين، فإن الإنفاق عليهم وإعفافهم أولى من التصدق على آخرين، لأن الصدقة على الأقارب لها أجر مضاعف.
4. ‏أن الوصية لا تزيد على الثلث: هذا أصل عظيم من أصول الميراث في الإسلام. فلا يجوز للمسلم أن يوصي بأكثر من ثلث تركته إلا إذا أجاز الورثة ذلك بعد موته.
5. ‏حكمة الصحابة وفقههم: قول ابن عباس «لو أن الناس غضوا...» يدل على فهم الصحابة العميق لمقاصد الشريعة، حيث لم يكتفوا بفهم النص بل فهموا روحه ومقصده، وهو الرفق بالناس ودفع المشقة عنهم.

---

خامساً:

تنبيه مهم
- هذه النصيحة (التقليل إلى الربع) هي للأفضلية والاستحباب، وليست للوجوب. فمن أوصى بالثلث فهو داخل في الرخصة ولا إثم عليه، لكنه ترك الأولى والأفضل.
- يستثنى من ذلك إذا كان الورثة أغنياء ولا حاجة لهم بالمال، أو كان للموصي مشاريع خيرية عظيمة النفع، فقد يكون الثلث قليلاً في حقه. فالأمر يعود إلى تقدير الموصي لمصلحة ورثته وحاجتهم.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين، والاتباع لسنة سيد المرسلين، وأن يوفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.