اركبها ثلاثا

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يزيدنا وإياك فهماً لسنة نبيه ﷺ.
هذا الحديث الشريف رواه الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو من الأحاديث التي تُظهر سماحة الإسلام ورفقه بالناس.

---

أولاً. شرح المفردات:

* يسوق بدنة: يسوقها أي يدفعها لتسير أمامه إلى مكان الذبح في منى. والبدنة: هي الناقة أو البقرة التي تُهدى أو تُنحر في الحج، وسُميت بذلك لسمنها وعظم جسدها.
* اركبها: أي اجعلها مركوباً لك فتستريح من مشقة السير.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يروي أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ﷺ رأى رجلاً وهو في طريقه إلى منى لأداء مناسك الحج، وكان هذا الرجل يسوق ناقةً كبيرة (بدنة) مخصصة للنسك (هدي أو أضحية) وهو يمشي بجانبها. فلمّا رآه النبي ﷺ يتعب في المشي، أمره أن يركبها ليرتاح من مشقة السير.
لكن الرجل تردد وأبدى امتعاضه، وقال: "إنها بدنة"، أي إنها مخصصة للنسك والعبادة، وخشي أن يكون في ركوبها إهانة لها أو تقصير في حقها، ظناً منه أن هذا لا يليق بهيبة النسك.
فأعاد عليه النبي ﷺ الأمر مرة ثانية: "اركبها"، فأعاد الرجل اعتراضه نفسه. حتى كرر النبي ﷺ أمره له ثلاث مرات، مؤكداً عليه ومبيناً أن لا حرج في ذلك.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- سماحة الإسلام ويسره: يظهر هذا الحديث مدى يسر الشريعة الإسلامية ورفقها بالناس، وعدم تكليفهم بما يشق عليهم. فالنبي ﷺ رأى الحاجة والمشقة فأمر بالترخيص والتيسير.
2- دحض الغلو والتشدد في الدين: كان موقف الرجل نابعاً من خشية وتديّن، لكنه كان نوعاً من الغلو والتشدد غير المطلوب. جاء النبي ﷺ ليبين أن الدين مبني على التيسير لا التعسير، وأن هذه الأمور الدنيوية لا تقدس بحيث تمنع الانتفاع بها عند الحاجة.
3- جواز ركوب الهدي والأضاحي إذا دعت الحاجة: هذا هو الحكم الفقهي المستفاد مباشرة من الحديث. يجوز للإنسان أن يركب البدنة أو أي animal مخصص للنسك إذا احتاج إلى ذلك، بشرط ألا يُجهده أو يعذبه. وهذا رأي جمهور العلماء.
4- التأكيد على التعليم بالتكرار: كرر النبي ﷺ الأمر ثلاثاً ليزيل ما في نفس الرجل من تردد وشبهة، وليؤكد على مشروعية الفعل وجوازه.
5- الرفق بالحيوان: الأمر بركوبها فيه أيضا رفق بالحيوان، حيث أن السير الطويل متعب للحيوان كما هو متعب للإنسان، وركوب الإنسان عليها قد يوازن السرعة ويريحها من دفع الإنسان لها باستمرار.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

* هذا الحديث أصل من أصول باب "اليسر ورفع الحرج" في الشريعة الإسلامية.
* يستدل به العلماء على أن الأصل في الأشياء الإباحة والانتفاع ما لم يرد دليل بالمنع، وليس العكس.
* يعلمنا النبي ﷺ في هذا الموقف كيف يكون الداعية الحكيم الذي يزيل الوساوس والشبهات من قلوب الناس باللطف والحكمة والتكرار الهادئ.
أسأل الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.