كُلْ من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فهذا حديث عظيم من الأحاديث التي تُبيّن رحمة الإسلام ومراعاته لظروف الناس، وتضع ضوابط للتعامل مع أموال اليتامى في حالات الضرورة.

---

الحديث بلفظه:

عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني فقير، وليس لي شيء، ولي يتيم، فقال: «كُلْ من مال يتيمك غير مسرف، ولا مبذر أو مبادر، ولا متأثل».

---

1. شرح المفردات:

* فقير: الذي لا يملك ما يكفيه لسد حاجاته الأساسية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن.
* ولي يتيم: الولي هو القائم على شؤون اليتيم ورعايته، واليتيم هو من مات أبوه وهو دون سن البلوغ.
* كُلْ: أي خذ وأنفق على نفسك منه بقدر الحاجة.
* غير مسرف: الإسراف هو مجاوزة الحد في الإنفاق، أي لا تتجاوز قدر حاجتك إلى الكماليات والترف.
* ولا مبذر: المبذر هو الذي يبذر المال ويضيعه في غير وجهه الحق، وهو قريب من معنى المسرف.
* ولا مبادر: (وفي رواية أخرى: ولا قابض) والمبادر هو الذي يمسك المال ويبخل به، فلا ينفق على اليتيم ولا على نفسه منه بالكلية، خوفًا من النفاد.
* ولا متأثل: المتأثِّل هو الذي يتخذ المال مالاً له ويجمعه لنفسه، فيجعله مُلكًا وعقارًا يدخره، أي لا تقتصده لنفسك وتستثمره لذاتك.

---

2. شرح الحديث:

يصور لنا هذا الحديث موقفًا إنسانيًّا رقيقًا، حيث يأتي رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو حاله، فهو فقير لا يجد ما يكفيه، وفي نفس الوقت هو ولي على يتيم (قريب له غالبًا) عنده مال، ولكنه يخاف أن يأكل منه حرامًا لأنه مال اليتيم الذي أمر الله بحفظه.
فجاءت الإجابة النبوية الرحيمة لترفع الحرج عن هذا الرجل، وتفتح له بابًا من أبواب الرزق الحلال بشروطٍ واضحة وصارمة.
* الإذن بالأكل: أباح النبي صلى الله عليه وسلم للرجل أن يأخذ من مال اليتيم بقدر حاجته فقط، لا أكثر. وهذا من رحمة الإسلام، حيث جعل حفظ نفس الولي وحاجته من مصلحة اليتيم نفسه، فلو جاع الولي أو ضعف قد لا يقوى على رعاية اليتيم والقيام بشؤونه.
* الضوابط والشروط: لم يكن الإذن مطلقًا، بل مقيدًا بأربعة ضوابط تحفظ مال اليتيم من الاعتداء:
1- غير مسرف: أي لا يتجاوز في الأكل والشرب حد الحاجة إلى الكماليات والترف.
2- ولا مبذر: أن لا يضيع المال في إنفاق غير مفيد أو في معصية.
3- ولا مبادر (ولا قابض): أن لا يبخل على نفسه وعلى اليتيم خوفًا من نقص المال، فيترك الإنفاق بالكلية مما يضره ويضر اليتيم.
4- ولا متأثل: وهو أهم الشرط، وهو أن لا يقصد من الأكل أن يتملك المال أو يجمعه لنفسه، كأن يشتري به عقارًا أو تجارةً يسجلها باسمه. فالأكل للحاجة الوقتية جائز، ولكن تملك الأصل لا يجوز.
فالحديث يضع ميزانًا دقيقًا بين حق الولي في الكفاف وحق اليتيم في حفظ ماله.

---

3. الدروس المستفادة منه:

1- مراعاة الإسلام للظروف الإنسانية: الشرع الإسلامي شرع يسر لا عسر، وهو يراعي حال الناس وظروفهم، ويرفع الحرج عنهم في حالات الضرورة والحاجة.
2- الحفاظ على أموال اليتامى: الأصل في مال اليتيم هو الحفظ والمنع من التعدي عليه، كما قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34]. والإذن هنا استثناء لحالة الضرورة القصوى.
3- ضبط مفهوم "الحاجة": الفقه الإسلامي يفرق بين "الحاجة" و"الترف" و"التملك". فالحاجة المؤقتة قد تُباح في بعض الظروف، أما التملك الدائم فهو محرم.
4- مسؤولية الولي: الحديث يبين عظم مسؤولية الولي على مال اليتيم، وأن عليه أن يتقي الله فيه، فلا يجور عليه بحجة الحاجة، ولا يضيعه بحجة البخل.
5- الاستشارة وطلب العلم: فعل الرجل في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم يدل على وجوب سؤال أهل العلم في الأمور المشكلة، وعدم التصرف في أموال اليتامى based on الهوى والظن.

---

4. معلومات إضافية:

* الحالة الخاصة والاستثناء: هذا الحكم (الأكل بالمعروف) خاص بالولي الفقير الذي لا يجد ما ينفق على نفسه. أما الغني فحرام عليه أن يأخذ شيئًا من مال اليتيم، بل يجب عليه أن ينفق من ماله الخاص على رعاية اليتيم.
* الرواية الأخرى: للحديث رواية في سنن أبي داود والنسائي بلفظ: «كُلْ وَاشْرَبْ وَتَصَدَّقْ وَالْبَسْ، مَا لَمْ تُوَارِهِ الْإِسْرَافُ وَالْمَخِيلَةُ». والمخيلة هي التباهي والاختيال بالملبس، مما يدل على أن الإنفاق يشمل الحاجات الأساسية من الطعام والشراب واللباس وحتى الصدقة إن كان ذلك من المعروف.