أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإليك شرح هذا الحديث النافع الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه عن الصحابي الجليل كعب بن مالك رضي الله عنه:

---

نص الحديث:

عن كعب بن مالك قال: قلت: يا رسول اللَّه، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى اللَّه، وإلى رسوله ﷺ، فقال: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك». قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر.

---

1. شرح المفردات:

● أنخلع: أي أتخلى وأتبرأ، وأعطي كل مالي في سبيل الله.
● صدقة إلى الله وإلى رسوله: أي أتصدق بمالي كله تقربًا إلى الله ورسوله.
● أمسك عليك بعض مالك: أي احتفظ ببعض مالك ولا تتصدق بكل شيء.
● سهمي الذي بخيبر: حصته من غنائم خيبر التي分配ها النبي ﷺ على المسلمين.

---

2. شرح الحديث:

هذا الحديث جزء من قصة توبة كعب بن مالك رضي الله عنه، وهو أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك دون عذر، ثم تاب الله عليهم. بعد نزول توبتهم، أراد كعب أن يُظهر شكرًا لله على توبته، فقرر أن يتصدق بكل ماله تكفيرًا عن ذنبه وتقربًا إلى الله ورسوله. فقال للنبي ﷺ: "يا رسول الله، إن من توبتي أن أتخلى عن مالي كله وأجعله صدقة لله ورسوله".
فأجابه النبي ﷺ بنصيحة حكيمة: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك"، أي لا تتصدق بكل شيء، بل احتفظ بجزء منه لنفسك وعيالك. فهذا أفضل لك من أن تترك نفسك وعائلتك بلا مال، ثم تحتاج إلى الناس.
فاستجاب كعب رضي الله لهذه النصيحة، وقال: "فإني أمسك سهمي الذي بخيبر"، أي سأحتفظ بحصتي من أرض خيبر (وهي أرض زراعية كانت له فيها نصيب).

---

3. الدروس المستفادة:

● الحكمة في الصدقة: لا يستحب للإنسان أن يتصدق بكل ماله، بل يُشرع له أن يحتفظ بقدر كافٍ لنفسه ولعياله، لئلا يصير عالة على الناس. وهذا من رحمة الإسلام واعتداله.
● طاعة النبي ﷺ: كعب بن مالك امتثل فورًا لنصيحة الرسول ﷺ، وهذا يدل على وجوب طاعة النبي في كل شيء، حتى لو خالف هوى النفس.
● التوبة لا تستلزم التبرع بكل المال: التوبة الصادقة مقبولة بالندم والإقلاع والعزم على عدم العودة، وليس شرطًا فيها أن يخسر الإنسان كل ماله. بل إن الاحتفاظ بالمال للإنفاق على النفس والعيال من القربات.
● فضل النبي ﷺ وحكمته: النبي ﷺ كان حريصًا على مصلحة أصحابه، فنصح كعبًا بما هو أصلح له في دينه ودنياه.

---

4. معلومات إضافية:

- هذا الحديث جزء من قصة طويلة ومشهورة في كتب السيرة والحديث، وهي قصة توبة كعب بن مالك وصاحبيه (مرارة بن الربيع وهلال بن أمية).
- استدل الفقهاء بهذا الحديث على أن الصدقة بكل المال غير مستحبة، بل تكون بالإمكانيات المعقولة دون إضرار بالنفس أو العيال.
- خيبر: هي منطقة ذات أراض زراعية غنية، فتحها المسلمون في السنة السابعة للهجرة، وقسم النبي ﷺ غنائمها على الصحابة.
أسأل الله أن ينفعنا بهذا الحديث، وأن يجعلنا من التائبين المنيبين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.