أوصى النبي ﷺ بكتاب الله

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
حياكم الله و بياكم، و نسأل الله تعالى أن يفتح لنا أبواب فضله وكرمه، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علما وفقها في الدين وارض عنا يا أكرم الأكرمين.
هذا حديث صحيح رواه الإمام البخاري في صحيحه (رقم 2740) وغيره، وهو من الأحاديث المهمة التي تتعلق بمسألة وصية النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته.

---

أولاً. شرح المفردات:

* طلحة بن مصرف: هو تابعي جليل، ثقة، من كبار علماء التابعين بالكوفة.
* عبد الله بن أبي أوفى: صحابي جليل، شهد بيعة الرضوان وغزوة الخندق، وكان آخر من بقي بالكوفة من الصحابة.
* هل كان النبي صلى الله عليه وسلم أوصى؟: أي هل ترك وصية مكتوبة أو شفهية خاصة عند موته تتعلق بشؤون الأمة أو الخلافة من بعده.
* كيف كتب على الناس الوصية؟: أي كيف أوجب الله على الناس في القرآن أن يكتبوا الوصية عند حضور أجلهم، كما في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180]. (هذا الحكم كان قبل أن تفرض الفرائض والمواريث، ثم نُسخ بآيات الميراث).
* أوصى بكتاب الله: أي أن وصيته صلى الله عليه وسلم العامة الدائمة التي أوصى بها الأمة هي التمسك بكتاب الله تعالى، وهو القرآن الكريم.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يذكر التابعي الجليل طلحة بن مصرف أنه سأل الصحابي عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه سؤالاً مهماً: هل ترك النبي صلى الله عليه وسلم وصية خاصة عند موته؟ فأجابه الصحابي الجليل بالنفي القاطع: "لا".
فاستشكل طلحة بن مصرف هذا الجواب، لأنه يعلم أن الله تعالى قد أوجب الوصية في القرآن، فقال: "كيف كتب على الناس الوصية؟" أي كيف أوجب الله على المسلمين أن يوصوا إذا حضرهم الموت، بينما النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لم يوصِ؟!
فأجابه عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه بالجواب الحاسم والشافي الذي يزيل الإشكال: "أوصى بكتاب الله".
فالمقصود بالحديث:
1- نفي الوصية الخاصة: نفى الصحابي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ترك وصية خاصة مكتوبة تتعلق بتعيين خليفة أو ترتيب لأمر الدولة من بعده. وهذا النفي يوافق ما جاء في أحاديث أخرى، مثل حديث عائشة رضي الله عنها عندما سئلت: "أأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟" فقالت: "ما وَصَّى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في شيءٍ قَطُّ" (رواه مسلم). فلم يترك وصيةً باسم شخص معين ليتولى الخلافة، بل ترك الأمر شورى بين المسلمين.
2- إثبات الوصية العامة: بيَّن الصحابي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يهمل أمر الوصية تماماً، بل أوصى أعظم وصية، وهي التمسك بكتاب الله تعالى، الذي فيه الهدى والنور، وفيه بيان جميع أمور الدين والدنيا. وهذه الوصية هي خلاصة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم طيلة بعثته.
فالحديث لا يناقض الأمر القرآني بالوصية، لأن الوصية التي أوجبها الله early in Islam كانت للورثة الذين لا حق لهم في الميراث (كالأقارب غير الوارثين)، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يترك مالاً يوصي فيه، بل ترك علمه ودينه، فكانت وصيته هي التمسك بالقرآن والسنة.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- كمال الدين وتمام النعمة: أن الله تعالى قد أكمل دينه وأتم نعمته على الأمة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكن بحاجة إلى وصية خاصة، لأن القرآن والسنة قد استوعبا كل ما تحتاجه الأمة من هدى.
2- القرآن الكريم هو الأساس: أن أعظم ما يوصي به المسلم هو التمسك بكتاب الله تعالى، فهو الحبل المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، الذي من تمسك به نجا، ومن تركه ضل.
3- حكمة النبي صلى الله عليه وسلم: في ترك أمر الخلافة شورى بين المسلمين، ولم يعين شخصاً بذاته، مما يدل على أن نظام الحكم في الإسلام قائم على الشورى والمصلحة العامة.
4- فهم نصوص الشرع بشكل متكامل: يجب أن تفهم النصوص الشرعية بعضها في ضوء بعض، فلا يؤخذ حديث واحد مع إغفال بقية الأحاديث والنصوص القرآنية. فوصيته صلى الله عليه وسلم بكتاب الله هي أعظم الوصايا.
5- بيان مكانة الصحابة رضي الله عنهم: حيث ينقلون العلم بدقة ويفهمون أسرار الشريعة ويجيبون على الإشكالات بأجوبة جامعة.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

جاءت وصية النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب الله في أحاديث أخرى بألفاظ أوضح، منها:
* عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي" (رواه الحاكم وصححه).
* وفي خطبته في حجة الوداع قال صلى الله عليه وسلم: "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله" (رواه مسلم).
فهذه هي الوصية العظمى التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم أمته.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أج