نهى النبي عن المجثمة ولبن الجلالة والشرب من في السقاء

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
فحديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي نهى فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة أشياء، هو حديث صحيح رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود والترمذي في سننهما، وصححه الألباني.
وفيما يلي شرح وافٍ للحديث، جزءًا جزءًا:

---

1. شرح المفردات:

* المجثَّمة: هي الطير أو الصيد الذي يُرمى بالبندق أو الحجر أو نحوهما حتى يموت مكانه (يُثبَّت في مكانه)، ولم يُذَكَّى تذكية شرعية (أي لم يُسلَك دمه بقطع الحلقوم أو المرئ).
* لبن الجلاَّلة: هو لبن الحيوان (مثل الإبل أو البقر أو الغنم) الذي يأكل العلف النجس أو القذر، كأن يكون غذاؤه من روث الحيوانات أو الجيف.
* الشرب من في السقاء: "الفِي" هو فم الإناء. و"السقاء" هو القربة أو وعاء الماء المصنوع من جلد الحيوان. والمعنى: الشرب مباشرة من فم القربة أو الوعاء الجلدي دون صبّ الماء في إناء آخر.

---

2. شرح الحديث:

ينهى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن ثلاثة أمور لها علاقة وطيدة بالصحة والطهارة والعفة:
* النّهي عن أكل المجثمة: والنهي هنا للتحريم عند كثير من العلماء. والعلة في هذا النهي هي أن الميتة محرمة، وهذه الطيور أو الحيوانات ماتت بسبب الجراحات والضرب دون ذكاة شرعية، فحكمها حكم الميتة، وهي نجسة وحرم أكلها. فالذكاة الشرعية (التي تخرج بها الروح مع خروج الدم) هي الطريقة الوحيدة التي تُحلّ بها هذه الحيوانات للأكل، وتطهر لحمها.
* النّهي عن شرب لبن الجلاّلة: والنهي هنا أيضًا للتحريم، أو للكراهة التنزيهية على قول آخر. والعلة أن الحيوان إذا تغذى على النجاسات والقاذورات، فإن لحمه ولبنه يتأثران بذلك، فيكتسبان رائحة كريهة وخصائص مستقذرة قد تضرّ بمن يتناولها. وهذا النهي يحقق مقصدين عظيمين:
1- مقصد صحي: حفظ بدن الإنسان من الأذى والأمراض التي قد تنتج عن هذه النجاسات.
2- مقصد نفسي وأخلاقي: تنقية طعام المسلم وشرابه من كل ما يستقذر، ليكون طيبًا طاهرًا كما أمر الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}.
وقد ورد في بعض الروايات أن النهي عن أكل لحم الجلالة نفسه، وأنه إذا حُبست الجلالة وأطعمت طعامًا طيبًا حتى تزول تلك الرائحة، فإنه يحل أكل لحمها وشرب لبنها.
* النّهي عن الشرب من فم السقاء: والمراد به النهي عن أن يضع الإنسان فمه على فم القربة أو القارورة ويشرب مباشرة. وهذا النهي للكراهة التنزيهية، وله حِكَم عديدة:
1- حكمة صحية: الشرب بهذه الطريقة قد يؤدي إلى اختلاط لعاب الشارب بالماء فيفسده، أو ينقل الأمراض إذا كان الشارب مريضًا، خاصة إذا كان الماء سيشربه غيره.
2- حكمة أدبية وجمالية: هذه الطريقة في الشرب غير لائقة، وقد تؤدي إلى تدفق الماء بشكل عنيف فيختنق الشارب، أو يسيل على ثيابه.
3- حكمة وقائية: لا يرى الشارب ما في جوف السقاء، فقد يكون فيه حشرة أو شيء مؤذٍ لا يراه.
والأفضل أن يُصَبَّ الماء في إناء ثم يشرب منه، كما كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

---

3. الدروس المستفادة منه:

1- شمولية الإسلام: يهتم الإسلام بجميع جوانب حياة المسلم، الكبيرة والصغيرة، من العبادات إلى المأكل والمشرب والآداب اليومية.
2- الحفاظ على الصحة: يظهر من هذه النواهي حرص الإسلام البالغ على صحة الإنسان وسلامته البدنية، بمنعه من كل ما قد يضره.
3- التطهر والنظافة: الإسلام دين النظافة والطهارة المعنوية والحسية، فينهى عن كل مستقذر أو مشكوك في طهارته.
4- التحلي بمكارم الأخلاق والآداب: النهي عن الشرب من فم السقاء يدل على تأصيل أدب التعامل مع الطعام والشراب، والابتعاد عن الأفعال المستقبحة.
5- التيسير ورفع الحرج: النهي عن لبن الجلالة ليس نهيًا مطلقًا، بل يمكن رفع سبب النهي بإطعام الحيوان طعامًا طيبًا، مما يدل على مرونة التشريع وسماحته.

---

4. معلومات إضافية:

* هذه النواهي الثلاثة تدخل تحت القاعدة الشرعية العظيمة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح".
* يعتبر الفقهاء أن علة النهي عن لبن الجلالة هي التغير بالرائحة الكريهة أو الطعم، فإذا زال هذا التغير زال الحكم.
* النهي عن الشرب من فم السقاء يشمل في معناه الحديث النهي عن الشرب من فم زجاجات الماء والعصير في زماننا، والأولى صبها في كأس.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.