الهجرة لا تنقطع ما دام العدو يقاتل.

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، وأسأل الله أن يوفقنا جميعاً لفهم سنة نبيه ﷺ والعمل بها.
هذا الحديث العظيم يجمع بين رواية عبد الله بن السعدي ورواية جماعة من الصحابة الكرام كمعاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين. وهو حديث صحيح رواه الإمام أحمد في مسنده وغيره، وله شواهد في الصحيحين.

---

أولاً. شرح مفردات الحديث:

● تنقطع: تنتهي وتزول.
● الهجرة: لغةً: الترك. وشرعاً: لها معنيان: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وهجرة المعاصي والذنوب.
● ما دام العدو يقاتل: أي ما دام الكفار يقاتلون المسلمين ويحاربونهم.
● تهجر السيئات: تترك المعاصي وتبتعد عنها.
● تهاجر إلى الله ورسوله: تنتقل بنية صادقة إلى طاعة الله واتباع رسوله ﷺ، وهذا يشمل الهجرة المكانية والمعنوية.
● ما تقبلت التوبة: ما دام باب التوبة مفتوحاً.
● تطلع الشمس من المغرب:這是 أحد أشراط الساعة الكبرى، فإذا حدث ذلك أغلق باب التوبة.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يبيّن النبي ﷺ في هذا الحديث أن الهجرة ليست حدثاً انتهى بفتح مكة، كما يظن بعض الناس، بل هي مستمرة إلى قيام الساعة، ولكنها تتخذ أشكالاً مختلفة.
1- استمرار الهجرة القتالية: «لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل»
هذا خاص بالهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، أو من أرض يخشى فيها على الدين إلى أرض يكون فيها able to openly practice his religion. فما دام هناك كفار يحاربون المسلمين ويضطهدونهم، تبقى الهجرة من ديارهم واجبة على من يقدر عليها ولا يستطيع إظهار دينه.
2- أقسام الهجرة الحقيقية: «إنَّ الهجرة خصلتان: إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرى أن تهاجر إلى الله ورسوله»
هنا يوسع النبي ﷺ مفهوم الهجرة ليشمل معنيين عظيمين:
* هجرة السيئات: وهي الهجرة الباطنة، أي هجر المعاصي كلها، صغيرها وكبيرها، ظاهرها وباطنها. فهجرة القلب عن الآثام وترك الذنوب هي الهجرة الحقيقية التي يجب أن يستمر عليها المسلم طوال حياته.
* الهجرة إلى الله ورسوله: وهي الهجرة الظاهرة والباطنة معاً، وتعني الهجرة بالقلب والجوارح إلى تحقيق عبادة الله وحده واتباع سنة رسوله ﷺ في كل الأمور. وهي تتطلب هجر كل ما يخالف شرع الله.
3- استمرار الهجرة المعنوية: «ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب»
هذا تأكيد على أن الهجرة المعنوية، وهي هجرة المعاصي والتوبة إلى الله، لا تنقطع أبداً ما دام باب التوبة مفتوحاً. وباب التوبة يظل مفتوحاً أمام العباد ليتوبوا وينيبوا إلى الله حتى تظهر علامة من أعظم علامات الساعة، وهي طلوع الشمس من مغربها. ففي ذلك اليوم يُختم على قلوب الناس، ولا تنفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل.
4- انقطاع العمل بطلوع الشمس من مغربها: «فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه. وكفي الناس عن العمل»
عندما تطلع الشمس من مغربها، يغلق باب التوبة والتكليف بشكل نهائي، لأنها علامة على قرب القيامة بشكل مؤكد. عندها لا يقبل إيمان كافر، ولا توبة عاصٍ، ويُكفى الناس عن العمل لأن وقت الاختبار والابتلاء قد انتهى.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- سعة مفهوم الهجرة: الهجرة ليست حدثاً تاريخياً فحسب، بل هي شعيرة مستمرة تتجدد معانيها. فهي هجرة بالجسد من دار الكفر، وهجرة بالقلب من المعاصي، وهجرة بالإرادة إلى طاعة الله ورسوله.
2- وجوب هجر المعاصي: أعظم الهجرة وأثبتها هي هجر الذنوب والسيئات، فهي الهجرة المستمرة التي يجب أن يكون عليها المسلم في كل زمان ومكان.
3- استمرار باب التوبة: الحديث يبعث على الأمل والتفاؤل، ويحث المسلم على المداومة على التوبة والإنابة إلى الله، فباب التوبة مفتوح على مصراعيه حتى قيام الساعة.
4- الحث على المسارعة: الحديث أيضاً تحذير من التسويف في التوبة والعمل الصالح، لأن الإنسان لا يدري متى ينغلق باب التوبة بالموت أو بطلوع الشمس من مغربها.
5- عظم علامات الساعة: في الحديث إشارة إلى عظمة حدث طلوع الشمس من مغربها، وأنه نهاية مرحلة الابتلاء والاختبار في هذه الدنيا.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

- الهجرة إلى الله ورسوله هي أصل الدين، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].
- الهجرة المعنوية (هجر السيئات) هي أساس صلاح القلب، وهي التي قال عنها النبي ﷺ: «والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (رواه البخاري).
- طلوع الشمس من مغربها هو من الأشراط الكبرى التي أخبر عنها النبي ﷺ، فإذا رآها الناس آمنوا أجمعون، ولكن لا ينفع إيمانهم حينئذ.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من المهاجرين إليه بكلمة وعم