أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب. هذا حديث عظيم له دلالات مهمة، سأشرحه لك جزءاً جزءاً مستنداً إلى كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.
الراوي والمتن:
الحديث رواه الإمام البخاري في صحيحه، عن الصحابي الجليل مجاشع بن مسعود السلمي رضي الله عنه، أنه جاء بأخيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، وقال: (يا رسول الله، جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة، قال: ذهب أهل الهجرة بما فيها فقلت: على أي شيء تبايعه؟ قال: أبايعه على الإسلام، والإيمان، والجهاد. فلقيت أبا معبد بعد، وكان أكبرهما، فسألته فقال: صدق مجاشع).

---

1. شرح المفردات:

* بأخي: المقصود هنا أخوه نُعيم بن مسعود رضي الله عنه، وهو صحابي جليل كان له دور كبير في غزوة الأحزاب (الخندق) حيث استخدم مكانته في قريش لإيقاع الفرقة بين الأحزاب.
* بعد الفتح: المقصود فتح مكة العظيم في السنة الثامنة للهجرة، وهو حدث فاصل في تاريخ الدعوة الإسلامية، حيث دخل الناس بعدها في دين الله أفواجاً.
* الهجرة: هي الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام طلباً لمرضاة الله. وكانت واجبة قبل الفتح على كل مسلم قادر.
* ذهبت الهجرة بما فيها: أي انتهى وقت فضيلتها الخاص وزمن وجوبها الأصلي، فلم يعد هناك دار كفر تهاجر منها بعد أن صارت مكة دار إسلام.
* أبايعُه: أي أتقبل بيعته وأعاهده.
* أبو معبد: هو الأخ الأكبر للراوي وأخيه نعيم، وهو معبد بن مسعود رضي الله عنه، وكان أكبر إخوته سناً وأعلمهم، فاستشهد الراوي بقوله لتأكيد روايته.

---

2. شرح الحديث:

يحكي مجاشع رضي الله عنه قصته مع النبي صلى الله عليه وسلم، حيث جاء بأخيه نعيم بعد فتح مكة ليبايع النبي على الهجرة، ظناً منه أن الهجرة لا تزال قائمة كعمل مستقل ذي فضل عظيم كما كانت من قبل.
فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بحكم جديد شرعه الله تعالى بعد هذا الفتح العزيز، وهو أن الهجرة من مكة قد انقطعت لأنها أصبحت دار إسلام، فلم يعد هناك معنى للهجرة منها. وهذا من رحمة الله تعالى وتيسيره على عباده.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد سائلَه خائباً، بل فتح له باباً أعظم وأشمل، وهو بيعة الإسلام الكاملة، فقال: (أبايعه على الإسلام، والإيمان، والجهاد).
* بيعة الإسلام: هي النطق بالشهادتين والاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة.
* بيعة الإيمان: هي بيعة على تحقيق أعمال القلوب والجوارح التي تكمِّل الإسلام وتؤكد صدقه، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
* بيعة الجهاد: هي البيعة على بذل النفس والمال في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى والدفاع عن الدين والمؤمنين، وهو ذروة سنام الإسلام.
فجمعت البيعة بين أركان الدين: الإسلام (الاستسلام القلبي واللساني)، والإيمان (التصديق القلبي والعمل)، والجهاد (ذروة العمل والتضحية).

---

3. الدروس المستفادة والعبر:

1- انقطاع هجرة المكان بعد الفتح: يوضح الحديث حكماً فقهياً عظيماً، وهو أن الهجرة من مكة قد انقطعت بعد فتحها لأنها صارت دار إسلام. وهذا الحكم خاص بمكة. أما الهجرة من دار الكفر (أي بلد يعلن الكفر ويحكم بغير شرع الله ويظهر فيه الكفر) إلى دار الإسلام، فهي باقية إلى قيام الساعة، وهي واجبة على كل مسلم لا يستطيع إظهار دينه.
2- مرونة الشريعة ونسخ الأحكام: الشريعة الإسلامية جاءت متدرجة، فبعض الأحكام كانت مؤقتة بزمن معين أو ظرف خاص، فإذا زال السبب زال الحكم أو تغير. وهذا من يسر الإسلام ومرونته.
3- سعة فضل الله تعالى:رغم أن انتهى فضل الهجرة من مكة، إلا أن الله تعالى فتح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أبواباً أخرى من الطاعات والأعمال التي تزيد أجرها وتفوق فضلها، مثل الجهاد في سبيل الله.
4- الجهاد هو البديل العظيم: بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن البديل عن الهجرة هو الجهاد، مما يدل على عظم مكانة الجهاد وعلو شأنه، فهو يقوم مقام الهجرة في زمن انقطاعها من مكان معين.
5- حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في التربية والتعليم: لم يرفض النبي طلب مجاشع مباشرة، بل بين له الحكم الجديد ثم предлож له البديل الأفضل، فكانت إجابة جامعة بين النفي للإعلام والإثبات للترغيب.
6- حرص الصحابة على الخير: يظهر من قصة مجاشع حرص الصحابة رضي الله عنهم على التمسك بالطاعات واغتنام فضائل الأعمال، وسؤالهم عن ما يُقربهم إلى الله تعالى.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

* استدل العلماء بهذا الحديث على نسخ وجوب الهجرة من مكة بعد فتحها.
* الهجرة أنواع:
* هجرة مكان: وهي الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام.
* هجرة عمل: وهي هجرة المعاصي والذنوب.
* هجرة شخص: وهي هجرة أهل البدع والفساق.
وهذه الهجرات