لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ كَلِمَةٌ مِنْ كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله خاتم النبيين وإمام المتقين.
أما بعد، فهذا الحديث العظيم الذي رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، وهو من الأحاديث الصحيحة التي أخرجها الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما، يحمل في طياته دروسًا عظيمة وفوائد جليلة. وسأشرحه لكم جزءًا جزءًا بما يليق بمقام النبوة، وبما يعين على فهمه والعمل به.

---

أولاً. شرح مفردات الحديث:

● أشراف الناس على وادٍ: أي وصلوا إلى مكان مرتفع يشرفون منه على وادٍ منخفض.
● ربعوا على أنفسكم: أي ارفقوا بأنفسكم، وخفضوا أصواتكم، ولا تبالغوا في رفعها.
● لا تدعون أصم ولا غائبًا: أي أن الله تعالى ليس بأصم لا يسمع، ولا بغائب عن خلقه حتى تحتاجوا إلى رفع الصوت ليجيبكم.
● لا حول ولا قوة إلا بالله: كلمة استسلام وتفويض الأمر لله، وأن العبد لا قدرة له على دفع الشر ولا على جلب الخير إلا بمشيئة الله وقوته.

---

ثانيًا. شرح الحديث:

يحدثنا الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن موقف حدث أثناء توجه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لغزوة خيبر، فلما وصلوا إلى مكان مرتفع وأشرفوا على وادٍ، شرع الصحابة رضي الله عنهم يرفعون أصواتهم بالتكبير والتهليل، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "اربعوا على أنفسكم" أي ارفقوا بأنفسكم ولا تجهدوها برفع الأصوات، لأنكم لا تدعون إلهاً أصم لا يسمع، أو غائبًا لا يعلم بحالكم، بل تدعون الله السميع القريب الذي يعلم سركم ونجواكم، وهو معكم أينما كنتم بعلمه وسمعه وبصره.
ثم ينتقل أبو موسى رضي الله عنه إلى جزء آخر من الحديث، فيذكر أنه كان خلف دابة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يردد كلمة "لا حول ولا قوة إلا بالله" بصوت منخفض، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، فناداه قائلاً: "يا عبد الله بن قيس" - وكان يكنى بذلك - فأجابه أبو موسى قائلاً: "لبيك رسول الله" أي أنا حاضر ومستعد لما تأمرني به، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلك على كلمة من كنز من كنوز الجنة؟" فقال أبو موسى: بلى يا رسول الله، فداك أبي وأمي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا حول ولا قوة إلا بالله".
وفي رواية أخرى للحديث يبين النبي صلى الله عليه وسلم قرب الله من عبده، فيقول: "والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم" أي أن الله أقرب إلى العبد من عنق راحلته التي يركبها، وهذا من أعظم الدلالات على قرب الله من عباده وإحاطته بهم.

---

ثالثًا. الدروس المستفادة من الحديث:

1- التأدب مع الله في الدعاء: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع الصوت في الذكر والدعاء، لأن الله قريب سميع، فلا حاجة إلى الصياح والجهر المفرط، وهذا أدب من آداب الدعاء.
2- قرب الله من عباده: يؤكد الحديث على قرب الله تعالى من عباده، فهو معهم بعلمه وسمعه وبصره، وهو أقرب إليهم من كل شيء، كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
3- فضل كلمة "لا حول ولا قوة إلا بالله": بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الكلمة من كنوز الجنة، أي أن قائلها يكتنز ثوابًا عظيمًا وأجرًا كبيرًا، وهي من أعظم الأذكار التي تقال في الصباح والمساء وفي كل حال.
4- الاستسلام والتفويض لله: معنى "لا حول ولا قوة إلا بالله" أن العبد يعترف بأنه لا قدرة له على شيء ولا حول له عن معصية الله إلا بعون الله وتوفيقه، فيفوض أمره كله إلى الله ويتوكل عليه.
5- الرفق بالنفس والآخرين: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اربعوا على أنفسكم" توجيه إلى الرفق وعدم الإجهاد في العبادة، فخير الأعمال أدومها وإن قل.

---

رابعًا. معلومات إضافية مفيدة:

- هذا الحديث أصل في أدب الدعاء والذكر، وأن المشروع هو الخفض بالصوت والتدبر في الذكر، لا رفع الصوت الذي قد يشوش على الآخرين.
- كلمة "لا حول ولا قوة إلا بالله" تقال عند التعرض لأمر عظيم، أو عند الضيق، أو عند العجز عن فعل الخير أو ترك الشر، وهي من الأذكار التي تحفظ العبد من الشيطان وتقويه على الطاعة.
- ينبغي للمسلم أن يستشعر قرب الله منه في كل لحظة، فيخشاه ويستحي منه، ويرجو رحمته ويخاف عقابه.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذاكرين الشاكرين، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.