من ترك عشير ما يعلم هوى

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب. هذا حديث عظيم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ينبئ عن أحوال الأمة في مسارها الزمني، ويحذر من الفتن، ويبين سبيل النجاة.
### أولاً. تخريج الحديث
هذا الحديث رواه الطبراني في "المعجم الكبير"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"، وقال الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة": إسناده صحيح.

### ثانياً. شرح المفردات
● عشير ما يعلم: أي القليل اليسير من العلم الذي يعلمه الإنسان.
● هوى: أي اتبع هواه وترك الحق.
● خطباؤه: جمع خطيب، والمقصود هنا المتكلمون الذين يخطبون الناس ويلقون الكلام بأسلوب بليغ مؤثر، وليس بالضرورة أن يكونوا على علم راسخ.
● نجا: سلم من الهلاك والضلال.

### ثالثاً. شرح الحديث
يقسم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الزمن إلى مرحلتين:
1- المرحلة الأولى (زمن الصحابة والتابعين وأتباعهم):
● صفته: "عُلَمَاؤُهُ كَثِيرٌ، خُطَبَاؤُهُ قَلِيلٌ".
● شرحها: هذا هو الزمن الذي كثر فيه العلماء الربانيون العاملون بعلمهم، الذين يخشون الله ويُعلّمون الناس الخير، ويبصرونهم بدينهم. وكان الخطيب البليغ قليلًا، لأن الهمّة كانت منصبة على طلب العلم الشرعي الحق والعمل به، لا على تحسين الألفاظ والتفنن في الكلام.
● الوصية فيه: "مَنْ تَرَكَ فِيهِ عُشَيْرَ مَا يَعْلَمُ هَوَى" أي: من ترك العمل ولو بقليل من العلم الذي يعلمه (مثل ترك أمر بمعروف أو نهي عن منكر يعلمه) اتبع هواه وضل، أو كما في الرواية الأخرى "هلك". فالمطلوب في هذا الزمن هو العمل بالعلم وعدم التفريط فيه.
2- المرحلة الثانية (زمن قلة العلم وكثرة الكلام):
● صفته: "يَقِلُّ عُلَمَاؤُهُ وَيَكْثُرُ خُطَبَاؤُهُ".
● شرحها: هذا زمن تظهر فيه الفتن، ويقل فيه العلماء العاملون الذين يُرجع إليهم في أمور الدين، ويكثر فيه المتكلمون والخطباء الذين يتقنون فنون الكلام والبلاغة والإلقاء، ولكن قد يفتقرون إلى العلم الصحيح، فيُضلون الناس بأقوالهم البراقة التي تروق للعاطفة ولكنها تخالف الشرع. وهذا الزمن هو زمننا الذي نعيشه، حيث كثر المتصدرون للحديث والدعوة بلا تأهيل علمي كاف.
● الوصية فيه والنجاة: "مَنْ تَمَسَّكَ فِيهِ بِعُشَيْرِ مَا يَعْلَمُ نَجَا". النجاة هنا ليست في كثرة الكلام أو الاستماع للخطباء، بل في التمسك بالقليل الصحيح من العلم الذي يعلمه الإنسان، والعمل به، وعدم الانجراف وراء كل صيحة أو خطيب. فلو أن إنسانًا علم مسألة واحدة من الدين يقينًا، فتمسك بها وعمل بها ولم يخالفها، فإن هذا سيكون سببًا لنجاته.

### رابعاً. الدروس المستفادة والفَوائد
1- بيان نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم: فقد أخبر عن أمور غيبية وقعت كما قال، مما يزيد المؤمن يقينًا بنبوته.
2- الحث على التمسك بالعلم والعمل به: فالعلم ليس لمجرد الدراية، بل للعمل والاتباع.
3- التحذير من اتباع الهوى: وخصوصًا عندما يترك الإنسان ما يعلم من الحق ليميل إلى ما تهواه نفسه.
4- الفرق بين العالم والخطيب: ليس كل من أجاد الكلام كان عالمًا، وليس كل عالمٍ بليغًا. فلا ينبغي أن يغتر المسلم ببلاغة الخطيب وحسن إلقائه دون النظر إلى موافقة كلامه للشرع.
5- سبيل النجاة في زمن الفتن: هو التمسك بما يعلمه الإنسان من الحق ولو كان قليلاً، والثبات عليه، وعدم الانجراف وراء الشبهات والكثرة.
6- الحث على طلب العلم: لأن التمسك بالعلم هو طريق النجاة، ولا يمكن التمسك بشيء لا يعلمه الإنسان.

---

خامساً:

معلومات إضافية
- هذا الحديث من جملة الأحاديث التي تُعرف بـ "أشراط الساعة الصغرى" أو علامات قرب القيامة، والتي منها قلة العلم وكثرة الجهل.
- ينبغي للمسلم أن يكون حريصًا على التفقه في دينه من مصادره الصحيحة (القرآن والسنة بفهم السلف الصالح) ليميز بين الحق والباطل، وبين العالم الحقيقي والخطيب المتكلم.
- من أعظم ما يعين على الثبات في هذا الزمان: مصاحبة أهل العلم والصلاح، وطلب العلم الشرعي، والإكثار من الدعاء بالثبات.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.