عنوان الحديث: فتن كقطع الليل المظلم تصدم الرجل كصدم جباه فحول الثيران

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، حياكم الله و بياكم أيها السائل الكريم، ونسأل الله أن يثبتنا وإياك على دينه، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
هذا الحديث العظيم الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، وغيرهما، عن الصحابي الجليل جندب بن سفيان البجلي -رضي الله عنه-، يحمل تحذيراً نبويّاً بليغاً من فتن عظيمة تقع بعد عصر النبوة، وبياناً للطريق الأمثل للنجاة منها.

---

أولاً. شرح مفردات الحديث:

● فِتَنٌ كقطع الليل المظلم: الفتن هي الاختبارات والشدائد التي تزلزل الإيمان. وشبهها النبي ﷺ بقطع الليل المظلم لشدة ظلمتها واشتباه الأمر فيها، فلا يهتدي فيها الإنسان لطريق الحق.
● تصدم الرجل كصدم جباه فحول الثيران: أي تضربه وتصيبه بشدة وعنف، كما تضرب جباه (جمع جبهة) الثيران القوية بعضها بعضاً عند النطح.
● يُصبح الرجل فيها مسلمًا ويُمسي كافرًا، ويُمسي مسلمًا ويُصبح كافرًا: دليل على سرعة تقلب القلوب وعدم ثبات الناس على الحق، فيرتد الإنسان عن دينه في جزء من النهار بسبب شدة الفتنة وفساد الزمان.
● اخْمِلوا ذكركم: أي اخفضوا أصواتكم، واقللوا من ظهوركم وبروزكم بين الناس، ولا تتدخلوا في الأمور التي لا تعنيكم.
● فليمسك بيديه: أي ليمنعهما عن القتال والباطل، وليكفّ أذاه عن الناس.
● عبد اللَّه المقتول، ولا يكن عبد اللَّه القاتل: أي كن من الذين يُقتلون ظلماً وهم على الحق، ولا تكن من الذين يقتلون الناس بغير حق.
● في قبة الإسلام: أي في ظل الإسلام واسمه، ولكنه في الحقيقة قد خرج عن حقيقته.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يخبرنا النبي ﷺ في هذا الحديث عن فتن عظيمة ستقع بعد وفاته، تكون شديدة الظلمة والاضطراب، تشبه ظلام الليل الحالك الذي لا يرى الإنسان فيه طريقاً. هذه الفتن تضرب الناس وتصيبهم بعنف، وتجعل الرجل يتقلب في دينه تقلباً سريعاً، فيدخل الصباح مؤمناً ويخرج المساء كافراً، أو بالعكس، بسبب ما يراه من شبهات واضطرابات وحروب.
ولما سأل الصحابي النبي ﷺ عن المخرج من هذه الفتنة، أرشده ﷺ إلى السلامة بالاعتزال وعدم الخوض في الفتنة، وذلك بلزوم البيوت، وكف الأذى، والتخفي وعدم إظهار النفس. فإذا أجبر الإنسان على الخروج أو دخل عليه أحد في بيته، فليكف يده عن القتال وعن الاعتداء على الآخرين، وليصبر على الأذى، وليكن من الذين يُقتلون ظلماً دون أن يكونوا من القتلة المعتدين.
ثم بين ﷺ عاقبة من يخالف هذا الأمر، فيخرج في هذه الفتنة ويقاتل بغير حق، فيأكل أموال الناس، ويسفك دماءهم، ويعصي ربه، ويكفر بنعمته، ومصيره إلى جهنم وبئس المصير.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- بيان حكمة النبي ﷺ ورحمته بأمته: حيث حذرهم من الفتن قبل وقوعها، وبين لهم طريق النجاة.
2- خطر الفتن وعاقبة الخوض فيها: فالفتن تهلك الإنسان في دينه ودنياه، وتزعزع إيمانه.
3- فضل لزوم البيوت وكف الأذى عند الفتن: وهذا من أعظم أسباب السلامة، كما قال ﷺ: «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي».
4- الحث على الصبر وعدم الاندفاع وراء الهوى: فالمؤمن يتأنى ويتثبت، ولا يندفع في القتال إلا إذا تبين له الحق.
5- تحريم قتل المسلم بغير حق: وأن من قتل مسلماً متعمداً فهو في النار، كما جاء في الحديث الآخر.
6- التحذير من التكفير والتبديع بدون علم: ففي زمن الفتن يكفر الرجل أخاه بسبب الشبهات والجهل.

---

رابعاً. معلومات إضافية مفيدة:

- هذا الحديث من أعلام نبوة النبي ﷺ، حيث أخبر عن أمور غيبية وقعت كما قال، كوقوع الفتن بعد وفاته، كقتال الجمل وصفين، والفتنة بين علي ومعاوية، وغيرها من الفتن التي استمرت في تاريخ الأمة.
- الاعتزال في الفتن ليس معناه ترك الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقاً، بل المراد اعتزال الفتنة الخاصة التي يكون فيها قتال بين المسلمين، ولا يتبين فيها الحق.
- على المسلم في زمن الفتن أن يلزم جماعة المسلمين وإمامهم، ويطيعهم في المعروف، ويعتصم بكتاب الله وسنة نبيه ﷺ، ويكثر من الدعاء والاستغفار.
نسأل الله أن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يثبت قلوبنا على دينه، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.