استوصوا بأصحابي خيرًا ثم الذين يلونهم

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، و نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا و أن ينفعنا بما علمنا و أن يزيدنا علما وفقها في الدين، وأن يغفر ذنوبنا ويستر عيوبنا ويجعلنا هداة مهتدين.
هذا حديث عظيم رواه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في سننه، وقال: حديث حسن صحيح. وهو من الأحاديث التي جمعت بين التوجيهات العقدية والأخلاقية والاجتماعية.

---

أولاً. شرح المفردات:

● مقامي فيكم: أي المكان الذي أقف فيه بينكم لأخطبكم.
● استوصوا بأصحابي خيرًا: أوصيكم خيراً بالصحابة، أي احسنوا معاملتهم ووقروهم وأكرموهم.
● يلونهم: يأتون بعدهم، أي الجيل الذي يليهم.
● يفشو الكذب: ينتشر ويظهر.
● ليبتدئ بالشهادة قبل أن يسألها: يتقدم بشهادته من غير أن يُطلب منه ذلك، دليلاً على انتشار الكذب وعدم المبالاة بالحق.
● باليمين قبل أن يسألها: يحلف من غير حاجة إلى ذلك.
● بُحْبُوحة الجنة: وسطها وأعلاها وأفضلها، وقيل: روضتها ونعيمها.
● فليلزم الجماعة: أي جماعة المسلمين وإمامهم، وطريق الحق الذي كان عليه السلف.
● الشيطان مع الواحد: أي أقرب إلى إغوائه وإضلاله.
● من الاثنين أبعد: أي أقل قدرة على إغوائهما وإفسادهما.
● لا يَخْلُوَنَّ: لا ينفردنَّ ولا يجلسنَّ وحده.
● ثالثهما: يكون حاضراً معهما ليوسوس ويدعو إلى الفاحشة.
● سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ: فرح بها واغتبط.
● سَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ: أحزنه فعلها وكرّهته فيها.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يخبر الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب في الناس في منطقة "الجابية" (من أرض الشام)، ونقل لهم هذا الحديث الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي اشتمل على وصايا عظيمة:
1- الوصية بحفظ حقوق الصحابة ومن بعدهم: يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بأن يحسنوا إلى صحابته الكرام، ثم إلى الجيل الذي يليهم (التابعين)، ثم الذي يليهم (أتباع التابعين). وهذا تكريم لهذه الأجيال المفضلة التي نقلت لنا الدين، وحفظت السنة، وجاهدت في سبيل الله. وهي وصية بحفظ حقوق السابقين والاعتراف بفضلهم.
2- التحذير من فشو الكذب وعدم المبالاة بالحقوق: يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن علامة من علامات آخر الزمان، وهي انتشار الكذب وعدم التورع عن الحلف الكاذب أو الشهادة بغير حق، حتى يصير الإنسان يتعجل الشهادة أو اليمين من غير أن يُسأل، دليلاً على استخفافه بأمر الله وأمر الشهادة.
3- التمسك بالجماعة والتحذير من الفرقة: يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن طريق النجاة والوصول إلى أعلى درجات الجنة هو لزوم جماعة المسلمين، والاعتصام بحبل الله المتين، واتباع منهج السلف الصالح. ويحذر من الانفراد والفرقة، لأن الشيطان يكون أقوى تأثيراً على المنفرد، بينما يضعف تأثيره عندما يكون المؤمنون مجتمعين.
4- التحذير من الخلوة بالمرأة الأجنبية: ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يخلو رجل بامرأة لا تحل له، لأن هذه الخلوة من أعظم أبواب الفتنة، والشيطان لا يفوته هذه الموقف ليوسوس للطرفين ويدفعهما إلى المعصية.
5- علامة الإيمان: يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات صحة الإيمان في القلب أن يفرح الإنسان عندما يعمل طاعة ويحزن عندما يقع في معصية. هذه الحساسية تجاه الطاعة والمعصية دليل على وجود نور الإيمان في القلب.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- وجوب احترام الصحابة وتقديرهم: فهم حملة الدين ونقلة السنة، وسبقونا بالإيمان والجهاد، وحقهم على الأمة عظيم.
2- التنبؤ بعلامات الساعة: من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بأحداث تقع في المستقبل لتحذير الأمة منها.
3- الحرص على لزوم جماعة المسلمين: والابتعاد عن الفرقة والاختلاف، لأن في الاجتماع قوة ومنعة من كيد الشيطان.
4- سد ذرائع الفتنة: بتحريم الخلوة بالأجنبية، حفظاً للأعراض ومنعاً للوقوع في المحرمات.
5- الفرح بالطاعة والحزن على المعصية: هما من أهم علامات الإيمان، ويجب على المسلم أن يجاهد نفسه ليكون كذلك.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

- هذا الحديث من الأحاديث التي جمعت بين الترهيب والترغيب، والوعظ والإرشاد.
- فيه الحث على التمسك بالوسطية والاعتدال، واتباع منهج السلف الصالح.
- ينبغي للمسلم أن يكون حريصاً على تطبيق هذه الوصايا النبوية في حياته، ليفوز برضا الله ودخول جنته.
أسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.