فرأيت إن دخل علي بيتي وبسط يده إلي ليقتلني قال: كن كابن آدم

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، و نسأل الله تعالى أن يرزقنا و إياكم العلم النافع والعمل الصالح، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علما وفقها في الدين واجعلنا هداة مهتدين.
هذا حديث عظيم من أحاديث الفتن التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وحذر منها، ووضع لها ضوابط للتعامل معها. سأشرحه لك جزءاً جزءاً بحول الله وقوته.
### أولاً. نص الحديث ومصدره
الراوي: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أحد العشرة المبشرين بالجنة.
المناسبة: قال هذا القول أثناء فتنة مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، والتي كانت من أعظم الفتن في تاريخ الأمة.
المصدر: أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والإمام مسلم في صحيحه، وأبو داود في سننه، وغيرهم.

### ثانياً. شرح المفردات
● فتنة: الابتلاء والاختبار، وهي هنا الفتنة والحرب الأهلية والاقتتال بين المسلمين.
● القاعد: الجالس في بيته، غير المشارك في الفتنة إطلاقاً.
● القائم: الواقف المتفرج، أو الذي همَّ بالخروج ولكن لم يفعل.
● الماشي: الذي مشى نحو الفتنة ولكن لم يشارك فيها بعد.
● الساعي: الذي يسعى فيها ويشارك بالفعل، إما بالقول أو الفعل أو التحريض.
● كن كابن آدم: أي كن مثل ابن آدم (هابيل) الذي قال لأخيه Cain (قابيل) كما في القصة القرآنية: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28]. أي لا تقاتل حتى ولو كان الدفاع عن نفسك.

### ثالثاً. شرح الحديث
يحتوي هذا الحديث على حكمتين عظيمتين:
1. التدرج في خيرية البعد عن الفتنة:
يضع النبي صلى الله عليه وسلم ميزاناً دقيقاً لمعرفة درجة السلامة من الفتنة، فكلما بعد المرء عنها كان أخيراً وأسلم له دينه. وهذا ترتيب تنازلي من الأفضل إلى الأدنى (مع أن الجميع فيه خير مقارنة بالمشارك الفاعل):
● القاعد: هو الأفضل مطلقاً، لأنه لم يتحرك نحو الفتنة لا بقلبه ولا بجسده، بل لزم بيته وسكت.
● القائم: الذي همَّ بالخروج ووقف يتطلع، لكنه لم يمشِ، ففيه نوع من الاهتمام بالفتنة مما يقلل من درجته.
● الماشي: الذي مشى نحوها وسار في طريقها، مما يجعله أقرب إلى الوقوع فيها.
● الساعي: هو الأسوأ من هذه المراتب، لأنه هو الذي يبذل الجهد ويشارك فيها فعلياً، وهذا هو الهلاك.
2. الموقف من القتل في الفتنة:
عندما سأل سعد رضي الله عنه عن حالة الدفاع عن النفس إذا هوجم الإنسان في بيته، بين النبي صلى الله عليه وسلم أعلى درجات الصبر والتسليم، بأن يكون كابن آدم (هابيل) الذي آثر أن يُقتل على أن يقتل، خوفاً من الله تعالى. وهذا ليس على إطلاقه، بل هو في حال القتال بين المسلمين بعضهم بعضاً في الفتنة. أما في حالات القتال مع الكفار أو الدفاع عن العرض والمال فالأحكام مختلفة.

### رابعاً. الدروس المستفادة والعبر
1- خطر الفتنة: الفتنة نار تحرق الجميع، والقرب منها مهلكة، والنجاة في البعد عنها.
2- الحكمة في أوقات الفتن: الواجب على المسلم أن يعزل نفسه عن الفتنة، ولا يسمع الأخبار، ولا يتابع المشاهد، ولا يشارك بالكلام أو الرأي.
3- تقديم السلامة الدينية على السلامة البدنية: تصل درجة الأمر إلى أن يُقتل المرء ظلماً خير له من أن يقتل غيره دفاعاً عن نفسه في فتنة المسلمين. لأن في قتله غيره هلاكاً لدينه ودنياه، وفي قتله هو ظلماً يكون شهيداً ويحفظ دينه.
4- الاقتداء بالصالحين: التأسي بهؤلاء الذين فضلوا الموت على أن يلوثوا أيديهم بدماء المسلمين.
5- بيان رحمة الإسلام: حتى في أشد حالات العدوان، يضع الشرع ضوابط تحفظ الدماء وتقلل من الشر.

---

خامساً:

معلومات إضافية مهمة
- هذا الحديث من أصول التعامل مع الفِتَن الداخلية بين المسلمين، وليس له تطبيق في حالات القتال ضد الكفار أو البغاة الخارجين على الجماعة.
- الفتنة التي حدثت في عهد عثمان رضي الله عنه كانت من أعظم المحن، وكان موقف كثير من الصحابة مثل سعد بن أبي وقاص وعلي بن أبي طالب وابن عمر رضي الله عنهم هو اعتزال الفتنة وعدم المشاركة فيها.
- القاعدة الشرعية المستفادة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح". فمفسدة قتل نفس مسلمة أعظم من مصلحة الدفاع عن النفس في هذه الحالة الخاصة.
أسأل الله أن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يرزقنا الحكمة والبصيرة في ديننا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.