أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة، فقال ابن عباس: آخر الأجلين

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فهذا حديث عظيم يوضح حكمة الشريعة الإسلامية ومرونتها في مسألة العدة، وخاصة للمرأة الحامل المتوفى عنها زوجها. سأشرحه لكم جزءًا جزءًا معتمدًا على كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.

---

أولاً. شرح المفردات:

● آخر الأجلين: أي أن عدتها تنتهي بأبعد الأمرين من بين أجلين: انقضاء أربعة أشهر وعشرًا (العدة المعتادة للوفاة) أو وضع الحمل.
● أُولَاتُ الْأَحْمَال: النساء الحوامل.
● كُريب: هو مولى ابن عباس، وكان ثقةً.
● أم سلمة: هي هند بنت أبي أمية، إحدى أمهات المؤمنين رضي الله عنها.
● سُبَيْعة الأسلمية: امرأة من قبيلة أسلم، وكانت حاملًا عندما قُتل زوجها.
● أبو السَّنابل: هو رجل من بني تميم، كان من خطاب سبيعة.

---

ثانيًا. شرح الحديث:

يبدأ الحديث بأن رجلاً سأل الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن امرأة وضعت حملها بعد وفاة زوجها بأربعين ليلة، فما حكم عدتها؟ فأجاب ابن عباس بأن عدتها تنتهي بآخر الأجلين، أي إما بانقضاء أربعة أشهر وعشرًا (وهي العدة المعتادة للمرأة المتوفى عنها زوجها) أو بوضع الحمل، أيهما جاء متأخرًا.
ثم تذكر أبو سلمة (الراوي) أن القرآن الكريم قد بين حكم الحوامل في سورة الطلاق، حيث قال الله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. فهذه الآية واضحة في أن عدة الحامل تنتهي بوضع الحمل سواءً كان ذلك قبل انقضاء أربعة أشهر وعشرًا أو بعدها.
وهنا نجد أن أبا هريرة رضي الله عنه – وهو من كبار حفاظ الحديث – يؤيد رأي أبي سلمة ويوافقه على أن العدة تنتهي بوضع الحمل، وليس بانقضاء أربعة أشهر وعشر.
ولكن ابن عباس رضي الله عنهما – مع علمه الواسع – أراد أن يتأكد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم العملية في هذه المسألة، فأرسل مولاه كُريبًا ليسأل أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، لأنها كانت أعلم الناس بوقائع عصر النبي صلى الله عليه وسلم.
فأخبرته أم سلمة رضي الله عنها بقصة سُبَيْعة الأسلمية، التي توفي زوجها وهي حامل، فوضعت حملها بعد وفاته بأربعين ليلة فقط (أي قبل انقضاء أربعة أشهر وعشر)، ثم خطبها أبو السنابل وغيره، فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أذن لها بالزواج بعد وضع الحمل مباشرة، ولم ينتظر انقضاء أربعة أشهر وعشر.

---

ثالثًا. الدروس المستفادة من الحديث:

1- حكمة الشريعة ومرونتها: الشريعة الإسلامية راعت حال المرأة الحامل، فخففت عنها بأن جعلت عدتها تنتهي بوضع الحمل، حتى لا تظل معتدة فترة طويلة.
2- الاستدلال بالسنة العملية: ابن عباس رضي الله عنهما – مع علمه – لم يعتمد على رأيه فقط، بل تحرى سنة النبي صلى الله عليه وسلم العملية وسأل أم سلمة.
3- أهمية الاجتماع على الحق: أبو هريرة وابن عباس وأبو سلمة وأم سلمة – رضي الله عنهم – كلهم اجتمعوا على حكم واحد بعد التحقق، وهذا يدل على توحد الأمة حول الحق.
4- جواز زواج المرأة بعد وضع الحمل مباشرة: إذا وضعت الحامل حملها – حتى لو بعد أيام قليلة من وفاة زوجها – انتهت عدتها وجاز لها الزواج.
5- فضل الصحابة وعلمهم: الحديث يظهر حرص الصحابة على الفهم الصحيح للدين، وتواصلهم لمعرفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

---

رابعًا. معلومات إضافية:

- هذا الحديث رواه الإمام البخاري والإمام مسلم في صحيحيهما، مما يدل على صحته وقوته.
- اتفق جمهور العلماء (من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) على أن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها تنتهي بوضع الحمل، سواءً كان بعد أيام أو أشهر.
- القصة تدل أيضًا على اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأمور المسلمين وتزويج الأيامى ورعاية أحوالهم.
وفي الختام، هذا الحديث من الأحاديث التي تجمع بين القرآن والسنة، وتظهر عدالة الشريعة الإسلامية ومراعاتها لأحوال الناس، خاصة المرأة في أحلك ظروفها.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.