لا تكحل عينيها في العدة

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإليكم شرح هذا الحديث النافع الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه:

---

الحديث:

عن زينب قالت: سمعتُ أمي أم سلمة زوج النبي ﷺ تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله. إن ابنتي تُوفّي عنها زوجُها. وقد اشتكتْ عينَيْها. أفتَكْحَلُهما؟ فقال رسول الله ﷺ: «لا» مرتين أو ثلاثا. كل ذلك يقول: «لا» ثم قال: «إنما هي أربعة أشهر وعشرًا. وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول».
قال حميد: فقلت لزينب: ومن ترمي البعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجُها. دخلت جِفْشًا ولبستْ شر ثيابها. ولم تمس طيبًا ولا شيئًا حتى تمر بها سنة، ثم تؤتي بدابةٍ، حمارٍ أو شاةٍ أو طيرٍ، فتفتضُّ به، فقلما تفتضُّ بشيء إلا مات، ثم تخرج، فتُعطى بعرة فترمي بها، ثم تُراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره. (وهذا ثالثُها).

---

1. شرح المفردات:

● تُوفّي عنها زوجُها: مات زوجها وهي في عصمته.
● اشتكتْ عينَيْها: أصابها مرض أو ألم في عينيها.
● أفتَكْحَلُهما؟: هل يجوز لها أن تضع الكحل فيهما للعلاج؟
● جِفْشًا: بيتًا صغيرًا أو حجرة معتزلة.
● شر ثيابها: أسوأ ملابسها وأقبحها.
● تفتضُّ به: تمسح به جسدها أو تلامسه (من الفَضَض وهو الكسر، والمراد هنا الاستخدام الذي يؤدي إلى هلاك الدابة).
● بعرة: روث الحيوان المجفف.
● ترمي بها: تلقى بها رميًا.
● رأس الحول: نهاية السنة.

---

2. شرح الحديث:

جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأل عن ابنتها التي توفي زوجها، وقد أصاب عينيها مرض، فاستأذنت في وضع الكحل لهما للعلاج أثناء فترة العدة، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأكد بالرفض ثلاث مرات، ثم بين أن عدة المتوفى عنها زوجها هي أربعة أشهر وعشرًا فقط، وليس سنة كاملة كما كانت تفعل النساء في الجاهلية.
ثم ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً بما كان عليه الحال في الجاهلية من تعظيم أمر الحداد وتطويل مدته، حيث كانت المرأة تدخل في عزلة كاملة وترتدي أسوأ الثياب، وتمتنع عن الطيب والزينة لمدة عام كامل، ثم في نهاية العام تأتي بدابة (حمار أو شاة أو طير) فتفتض به (أي تمسح به أو تستخدمه بطريقة تؤدي إلى موته)، ثم ترمي بعرة (روثًا) رمزًا للانتهاء من الحداد، وبعد ذلك تعود إلى حياتها الطبيعية.
وهذا المثال من النبي صلى الله عليه وسلم جاء ليبين أن الإسلام قد خفف عن المرأة ورفع عنها المشقة، وحدد العدة بأربعة أشهر وعشرًا فقط، دون حاجة إلى هذه الممارسات الجاهلية.

---

3. الدروس المستفادة:

● بيان عدة المتوفى عنها زوجها: وهي أربعة أشهر وعشرًا، كما جاء في القرآن الكريم: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234].
● تحريم الزينة أثناء العدة: يحرم على المعتدة من الوفاة أن تتزين أو تتحسن بالمظهر، حتى لو كان للعلاج كالكحل، إلا إذا كان هناك ضرورة طبية يقدرها الطبيب الثقة، مع مراعاة عدم الزينة.
● رفع الحرج والمشقة: الإسلام يرفع عن الناس الإصر والأغلال التي كانت عليهم في الجاهلية، ويأتي بالتيسير ورفع المشقة.
● ذم عادات الجاهلية: الحديث يبين سوء ما كانت عليه الجاهلية من اعتقادات باطلة وممارسات قاسية لا تقوم على أساس شرعي.
● التأكيد على النهي: تكرار النبي صلى الله عليه وسلم للنهي ("لا" مرتين أو ثلاثًا) يدل على تأكيد تحريم الزينة خلال العدة.

---

4. معلومات إضافية:

- هذا الحديث أصل في تحريم الزينة على المعتدة من الوفاة، سواء كان ذلك في اللباس أو الطيب أو الكحل أو غير ذلك، إلا للضرورة التي يقرها أهل العلم.
- العدة شرعت لاحترام حق الزوج، وإظهار الحزن عليه، وتجنبًا لاختلاط الأنساب.
- ما كان يحدث في الجاهلية من إيذاء الحيوان وإهلاكه (كفتض الدابة) هو من الأمور المنكرة التي حرمها الإسلام.
نسأل الله أن يفقهنا في الدين، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.