خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب. هذا الحديث العظيم الذي سألت عنه رواه الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما، وهو من الأحاديث التي تُبين فضل الصحابة ومن جاء بعدهم، وتُحذر من الانحراف الذي سيحدث في الأمة.
### أولاً. نص الحديث
عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ». قال عمران: فَلاَ أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً. قال النبي ﷺ: «إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلاَ يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ».

### ثانياً. شرح المفردات
● خيركم قرني: خير: أفضل. قرني: أي جيلي وزماني، وهم الصحابة رضي الله عنهم.
● الذين يلونهم: الذين يأتون بعدهم مباشرة، وهم التابعون.
● الذين يلونهم: الذين يأتون بعد التابعين، وهم تابعو التابعين.
● يخونون: يخونون الأمانة ولا يؤدونها.
● ولا يؤتمنون: لا يصبحون أهلاً للثقة والأمانة.
● ويشهدون: يقدمون الشهادة من تلقاء أنفسهم دون أن يُطلب منهم ذلك.
● ولا يستشهدون: لا يُطلب منهم أن يشهدوا؛ لأنهم غير معروفين بالصدق.
● وينذرون: يلتزمون بالنذور لله تعالى.
● ولا يفون: لا يوفون بها ولا ينفذونها.
● ويظهر فيهم السمن: أي كثرة الشحم والبدانة، وهو كناية عن التنعم والترف وكثرة الأكل.

### ثالثاً. شرح الحديث
ينقسم هذا الحديث الشريف إلى جزأين:
الجزء الأول: تفاضل القرون
يخبرنا النبي ﷺ أن أفضل القرون على الإطلاق هو قرنه، وهو جيل الصحابة رضي الله عنهم. ثم يليهم في الفضل الجيل الذي بعدهم، وهم التابعون. ثم يليهم في الفضل الجيل الذي بعدهم، وهم تابعو التابعين.
وقد اختلف العلماء في العدد الذي ذكره النبي ﷺ، كما حصل لعمْران بن حصين رضي الله عنه حين شك هل ذكر النبي قرنين بعد الصحابة أم ثلاثة؟ والصحيح الذي عليه جمهور العلماء أن الخيرية تشمل ثلاثة قرون: قرن الصحابة، ثم التابعين، ثم تابعي التابعين. وهذا هو المرجح لأن النبي ﷺ قال في رواية أخرى: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ولم يزد على ذلك. وهذه القرون الثلاثة هي التي شهد لها النبي ﷺ بالخيرية المطلقة.
الجزء الثاني: بيان حال من يأتي بعد هذه القرون المفضلة
يُنَبِّئُنا النبي ﷺ عما سيحدث فيمن يأتي بعد هذه القرون المباركة من انحراف في الأخلاق والدين، فيصفهم بأربع صفات ذميمة:
1- «يخونون ولا يؤتمنون»: أي أن الخيانة تصبح من صفاتهم، فلا يؤدون الأمانات، وبالتالي لا يثق بهم الناس ولا يأتمنونهم على شيء. وهذا نقيض صفة الصحابة والتابعين الذين كانوا أمناء.
2- «ويشهدون ولا يستشهدون»: أي أنهم يتسرعون في الشهادة دون تثبت، أو يشهدون زوراً، أو يشهدون لغير الحق. ولهذا لا يطلب منهم أحد الشهادة؛ لعدم ثقته في صدقهم وأمانتهم.
3- «وينذرون ولا يفون»: أي أنهم يكثرون من النذور لله تعالى (كأن يقول أحدهم: لله عليَّ نذر أن أصوم كذا إن شفى الله مريضي) ولكنهم لا يوفون بها ويتكاسلون عن أدائها. وهذا دليل على ضعف الإيمان والاستهانة بحق الله تعالى.
4- «ويظهر فيهم السمن»: هذه العلامة الظاهرة تدل على سبب الانحراف الخلقي والديني، وهو الترف والتنعم وكثرة الأكل والشرب، والانشغال بالملذات والشهوات، مما يؤدي إلى قسوة القلب وضعف التقوى. فالسمن هنا ليس ذماً للجسم نفسه، بل هو رمز للانغماس في الدنيا والراحة، والإعراض عن الجد والاجتهاد في الطاعة.

### رابعاً. الدروس المستفادة والعبر
1- فضل الصحابة والتابعين: يجب اعتقاد فضل الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من التابعين وتابعيهم، وأنهم خير الناس بعد الأنبياء. وهذا يوجب محبتهم وتقديرهم والدفاع عن أعراضهم.
2- سننية التغير والانحراف: بيّن النبي ﷺ أن الأمة ستشهد انحرافاً تدريجياً في الأخلاق والعبادات مع مرور الزمن. وهذا يحذرنا من الانجراف مع التيار، ويحثنا على التمسك بالهدي النبوي والسنة.
3- الحذر من سوء الخلق: الحديث يحذرنا من الصفات الذميمة مثل الخيانة، والكذب في الشهادة، وإخلاف الوعد مع الله (النذر). ويحثنا على التحلي بضدها: الأمانة، والصدق، والوفاء.
4- التحذير من الترف: "السمن"