أبو بكر يطلب المغفرة من عمر ويغفر الله له

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا حديث عظيم رواه البخاري في صحيحه، وفيه دروسٌ عظيمة في الأخوة والصحبة وحقوقها. سأشرحه لك جزءاً جزءاً معتمداً على كبار شراح الحديث كالنووي وابن حجر العسقلاني وغيرهم.

---

أولاً. شرح المفردات:

● آخذا بطرف ثوبه: أي ممسكاً بحافة ثوبه من شدة السرعة.
● حتى أبدى عن ركبته: أي ظهرت ركبته من رفع الثوب أثناء المشي السريع.
● فقد غامر: أي خاطر بنفسه أو أسرع في مشيه بشكل خطر.
● يتمعر: أي يتغير ويظلم غضباً.
● فأشفق: أي خاف وجزع.
● فجثا على ركبتيه: أي جلس على ركبتيه تواضعاً وخضوعاً.
● وواساني بنفسه وماله: أي بذل نفسه وماله في نصرتي ومساندتي.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يجلس أبو الدرداء رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بأبي بكر الصديق رضي الله عنه يأتي مسرعاً جداً حتى ظهرت ركبته من شدة رفع ثوبه في مشيه. هذا المشهد يدل على شدة اهتمام أبي بكر واستعجاله في أمر مهم.
فعلّق النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة بقوله: "أما صاحبكم فقد غامر"، أي إن صاحبكم (أبا بكر) قد أسرع وخاطر بنفسه في مشيه.
ثم سلّم أبو بكر وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن خلافاً وقع بينه وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فبادر أبو بكر بالذهاب إلى عمر ليعتذر منه ويطلب منه المسامحة، لكن عمر رفض أن يقبل اعتذاره في البداية.
حينها شعر أبو بكر بالندم الشديد وأقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشتكي له الموقف. فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "يغفر الله لك يا أبا بكر" ثلاث مرات، تأكيداً على استجابة الدعاء وتطييباً لخاطره.
بعد ذلك، شعر عمر رضي الله عنه بالندم على عدم قبول اعتذار أبي بكر، فذهب إلى بيته ليعتذر منه، فقيل له إنه غير موجود. فذهب عمر مباشرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
عندما دخل عمر وسلم، ظهر الغضب الشديد على وجه النبي صلى الله عليه وسلم حتى خاف أبو بكر من شدة هذا الغضب. فجلس أبو بكر على ركبتيه (وهي هيئة الجلوس التي تدل على التواضع والخضوع) وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: "والله يا رسول الله، أنا كنت الظالم" أي المخطئ في حق عمر، وكررها مرتين ليوكد صدقه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم كلمات خالدة تظهر مكانة أبي بكر ومنزلته: "إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟".
هنا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضل أبي بكر العظيم، فهو الذي صدقه حين كذبه الناس، ونصره بماله ونفسه حين تخلى عنه الآخرون. ثم يقول لهم بأسلوب الاستفهام الإنكاري: "فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟"، أي أتريدون أن تؤذوا صاحبي ورفيقي؟!
وختم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "فما أوذي بعدها"، أي أن أبا بكر رضي الله عنه لم يتعرض لأذى من أحد بعد هذه الواقعة، لأن الجميع فهموا مكانته وعظم حقه.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه: فهو الصديق الذي صدق النبي صلى الله عليه وسلم عند تكذيب الناس، ونصره بماله ونفسه. وهذه من أعلى مراتب الصحبة والإيمان.
2- عظم حق الصحبة: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حقوق أصحابه، ودفاعه عنهم، وغضبه لهم.
3- قيمة المسارعة إلى الاعتذار: أبو بكر بادر بالاعتذار رغم فضله ومكانته، وهذا دليل على تواضعه وخوفه من الله.
4- قبول الاعتذار وعدم التمسك بالخلافات: ندم عمر على عدم قبول الاعتذار، وذهب هو الآخر ليعتذر، وهذا يدل على أن الخيرية تكون في المسارعة إلى الخير وحسم الخلاف.
5- التأديب بالغضب: غضب النبي صلى الله عليه وسلم كان لغرض تربوي، ليعلم الصحابة مكانة أبي بكر ويحفظ حقه.
6- التواضع والإنصاف: تواضع أبي بكر حين جثا على ركبتيه، وإنصافه لنفسه بالاعتراف بالظلم.
7- الشفاعة الحسنة: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ودعاؤه له.
8- حسم الخلافات وعدم إطالة أمدها: الخلاف حصل وانتهى في نفس اليوم، ولم يسمحوا له أن يستمر.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

- هذا الحديث من أبلغ الأحاديث في فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد استدل به العلماء على أفضليته على جميع الصحابة.
- فيه بيان لأخلاق الصحابة رضي الله عنهم، وكيف كانوا يتعاملون مع الخلافات بينهم بحكمة وسرعة.
- قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فهل أنتم تاركوا لي صاحبي" يدل على عظم مكانة الصاحب والصديق في الإسلام.
أسأل الله أن ينفعنا بهذا الحديث، وأن يجعلنا ممن يتأسى بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.