لا عدوى

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإليك شرح هذا الحديث النافع الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه وغيره:

---

الحديث:

عن عمرو بن دينار قال: كان ها هنا رجل اسمه نواس، وكانت عنده إبل هيم فذهب ابن عمر، فاشترى تلك الإبل من شريك له، فجاء إليه شريكه، فقال: بعنا تلك الإبل، فقال: ممن بعتها؟ قال: من شيخ كذا وكذا فقال: ويحك ذاك -والله- ابن عمر فجاءه فقال: إن شريكي باعك إبلا هِيْما ولم يعرفك قال: فاستقْها. قال: فلمّا ذهب يستاقها فقال: دَعْها، رضينا بقضاء رسول الله ﷺ: «لا عدوى».

---

1. شرح المفردات:

● هيم: جمع هيماء، وهي الإبل المصابة بداء العطش الشديد الذي يجعلها تشرب الماء بكثرة ولا ترتوي.
● ويحك: كلمة تقال للتحسر أو التوجع، ومعناها هنا: "أهلكك" أو "افسد أمرك".
● استقْها: أي خذها واقتادها (من الاستيقاد).
● دَعْها: اتركها وأبقهالا تمسكها.

---

2. شرح الحديث:

يحكي لنا هذا الحديث قصة واقعية جرت مع الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وهي تحمل معاني سامية في الأخلاق والتجارة والرضا بقضاء الله وقدره.
- كان هناك رجل يسمى "نواس" له إبل مصابة بمرض "الهيم" (العطش الدائم)، وكان له شريك في هذه الإبل.
- ذهب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما واشترى هذه الإبل من الشريك (بدون أن يعلم الشريك أنه ابن عمر، أو ربما لم يعرفه).
- عندما علم الشريك الآخر أن المشتري هو ابن عمر - وهو معروف بورعه وعدله - جاء إلى ابن عمر معتذرًا ومخبرًا إياه أن شريكه باعه إبلاً معيبة (هيماً) دون أن يعلمه بحقيقة المشتري (أي لو عرف أنك ابن عمر لما جرؤ على بخسك).
- هنا، عرض ابن عمر على الرجل فسخ الصفقة وأمره قائلاً: "فاستقها" أي خذ إبلك مرة أخرى وارجع عليك الثمن.
- لكن لما هم الرجل بأخذ الإبل، قال له ابن عمر: "دعها" (أي اتركها عندي ولا تأخذها)، ثم علل ذلك بقوله: "رضينا بقضاء رسول الله ﷺ: لا عدوى".

---

3. الدروس المستفادة والعبر:

1- الورع والعدل في البيع والشراء: يظهر من فعل ابن عمر رضي الله عنهما حرصه على التخلص من أي شبهة في ماله، فما أن علم أن البائع خدعه (ولو بدون قصد) حتى أراد فسخ البيع ليريح نفسه ويريح البائع.
2- التسامح والفضل: من أعظم الدروس هنا هو أن ابن عمر رضي الله عنهما بعد أن أعطى الحق للرجل في استرداد إبله، تراجع عن ذلك وتركها عنده، وهذا من كرم الأخلاق وعلو الهمة، حيث فضل أن يخسر مالاً على أن يخذل أخاه المسلم أو يسبب له حرجًا.
3- التسليم والرضا بقضاء الله وقدره: قول ابن عمر: "رضينا بقضاء رسول الله ﷺ: لا عدوى" هو جوهر القصة. والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى أن تنتقل الأمراض بالعدوى بذاتها دون مشيئة الله، فالإبل الهيماء لا تضر إلا بقدر الله. فابن عمر رضي الله عنهما رضي بهذا القدر ووثق بأن الله هو الشافي والمعافي.
4- التعامل بالأخلاق حتى في التجارة: الإسلام يحث على الصدق والأمانة في البيع، وذم الغش والخداع. وهنا نرى كيف أن الشريك ندم عندما علم أنه باع لابن عمر إبلاً معيبة، مما يدل على تأثير أخلاق ابن عمر حتى في الآخرين.
5- قوة العقيدة والإيمان بالقدر: استشهاد ابن عمر بحديث "لا عدوى" (وهو حديث صحيح) يبين إيمانه العميق بأن الأمراض لا تنتشر بذاتها، بل بقدر الله، فلا خوف ولا جزع من مرضٍ إذا كتبه الله.

---

4. معلومات إضافية:

● حديث "لا عدوى": هو جزء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ، ولا هامَةَ ولا صَفَرَ". رواه البخاري ومسلم. والمعنى: نفي الاعتقاد الجاهلي بأن الأمراض تعدي بطبعها، فلا عدوى حقيقية مؤثرة بذاتها، بل كل شيء بقدر الله. ولكن هذا لا ينافي الأخذ بالأسباب كاجتناب المريض مخافة العدوى كما في الحديث: "فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ" (رواه البخاري)، فهذا من الأسباب المشروعة التي يأمر بها الشرع.
● سيرة ابن عمر رضي الله عنهما: كان رضي الله عنه من أشد الناس ورعًا وتقوى، وكان يتحرى كل شيء في دينه ودنياه، حتى إنه كان يترك كثيرًا من المباحات خشية الوقوع في الشبهات.

أسأل الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يرزقنا حسن الاتباع لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.