مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد،
فأقدم لكم شرحًا وافيًا لهذا الحديث النبوي الشريف، معتمدًا على كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.

---

نص الحديث:

عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، أنه قال: صلّى لنا رسول الله ﷺ صلاة الصُّبح بالحديبيّة على إثر سماء كانت من اللّيل. فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: «أتدرون ماذا قال ربُّكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي. فأمّا من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي، كافر بالكوكب. وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي، مؤمن بالكوكب».

---

1. شرح المفردات:

● الحديبية: مكان قرب مكة، وقعت فيه بيعة الرضوان المشهورة.
● على إثر سماء: بعد مطر جاء ليلاً. والسماء هنا بمعنى المطر، كما في قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}.
● قال ربكم: أي أخبر الله تعالى ملائكته أو أنبياءه.
● بنوء كذا وكذا: النوء (بفتح النون) هو النجم أو الكوكب. وكان أهل الجاهلية يزعمون أن المطر ينزل بنوء (طالع) نجم معين، فينسبون المطر إلى ذلك الكوكب.
● كافر بالكوكب: أي جاحد لتدبيره وتأثيره المستقل، منكر لعبادته.

---

2. شرح الحديث:

يخبر الصحابي الجليل زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الصبح في مكان يسمى الحديبية بعد أن هطل المطر في الليل. وبعد انتهاء الصلاة، التفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلين وسألهم سؤالاً يستثير انتباههم ويوجههم إلى أمر عظيم: «أتدرون ماذا قال ربكم؟» فأجابوا بأدب جم: «الله ورسوله أعلم».
فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي". ثم فسر هذه الجملة العظيمة، مبينًا أن الإيمان والكفر هنا يتعلقان بنسبة النعم إلى مُنْزِلِها الحقيقي.
● الفئة الأولى (المؤمنون بالله): هم الذين ينسبون نعمة المطر إلى الله تعالى وحده، ويقولون: "مُطرنا بفضل الله ورحمته". فهم يعترفون بأن الله هو المنعم وحده، وأن الفضل كله له، وأن الرحمة منه سبحانه. وهذا قول المؤمن الموحد الذي يرى الأسباب ولكن لا يعتقد فيها تأثيرًا مستقلاً عن مشيئة الله وقدرته.
● الفئة الثانية (الكافرون بالله في هذا القول): هم الذين ينسبون المطر إلى النجوم والكواكب، كما كان يفعل أهل الجاهلية، فيقولون: "مُطرنا بنوء النجم الفلاني" أو "بطلوع النجم الفلاني". فهذا القول يشبه قول المشركين الذين كانوا يعتقدون أن للنجوم تأثيرًا ذاتيًا في إنزال المطر، فينسبون النعمة إلى غير الله، وهذا شرك في الربوبية يناقض التوحيد.

---

3. الدروس المستفادة والعبر:

● إثبات صفة الكلام لله تعالى كما يليق بجلاله، من غير تشبيه ولا تعطيل.
● وجوب نسبة النعم كلها إلى الله تعالى وحده، فهو المنعم المتفضل.
● خطورة الشرك الخفي، وهو شرك الأقوال والأفعال، وليس فقط شرك العبادة. فمجرد القول الذي ينسب النعمة لغير الله قد يوقع في الكفر.
● بيان حكمة النبي صلى الله عليه وسلم التربوية في تعليم الصحابة، حيث كان يستخدم أسلوب السؤال والاستثارة لشد انتباههم، ثم يبين لهم الحكم.
● أن الإيمان والكفر قد يكونان في القول وليس في الاعتقاد فقط، فالقول الذي ينافي التوحيد كفر حتى لو لم يعتقده القلب تمام الاعتقاد.
● تحذير المسلمين من التشبه بأهل الجاهلية في أقوالهم وأفعالهم التي تنافي التوحيد.
● أن الأسباب الطبيعية (كالنجوم) هي مجرد أسباب مخلوقة لا تأثير لها بذاتها، بل تأثيرها بقدرة الله ومشيئته. فالمؤمن يرى السبب ولكن لا يعتقد فيه تأثيرًا مستقلاً.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

- هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما، مما يدل على عظم مكانته وصحته.
- بعض العلماء يذكر أن من قال: "مُطرنا بنجم كذا" على سبيل التعجب أو العادة، دون اعتقاد أن النجم هو المنزل للمطر، فإنه لا يكفر، لكنه ارتكب ذنبًا عظيمًا وخطأً فاحشًا يجب التوبة منه؛ لأنه قال قولاً يوهم الشرك.
- يستفاد من الحديث أن على المسلم أن يحذر من الألفاظ الشركية التي تقال في الأمور اليومية، كقولهم: "لو لا الكلب لدخل اللص"، أو "هذا علاج جاءنا من عند الطبيب الفلاني" دون نسبة الشفاء لله. والأولى أن يقول: "مُطرنا بفضل الله"، أو "الشفاء من الله ثم بفضل هذا العلاج".
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المؤمنين الموحدين له، المنسبين всех النعم إليه، وأن يعيذنا من الشرك كبيره وصغيره، ظاهره وباطنه.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.