إن من أخيركم أحسنكم خلقا

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا حديث عظيم من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصاراً. وها أنا أشرحه لك جزءاً جزءاً معتمداً على كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.
الراوي والسياق:
الحديث يرويه الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وهو من الصحابة العلماء العباد، وكان ممن كتب الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روى الحديث عنه التابعي الثقة مسروق بن الأجدع، وهو من كبار تلاميذ ابن مسعود رضي الله عنه وأثبت الناس في ابن مسعود.
وقد جاء هذا الثناء على أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في سياق زيارة مسروق وأصحابه لعبد الله بن عمرو رضي الله عنه حين قدم الكوفة مع معاوية رضي الله عنه.

---

1. شرح المفردات:

● فاحشًا: الفاحش هو الذي يتكلم بالكلام القبيح البذيء، أو يفعل الأفعال المستقبحة.
● مُتَفَحِّشًا: المُتَفَحِّش هو الذي يُكثر من الفحش ويتعمده، ويتوسع فيه. فالفاحش قد يقع منه الشيء أحياناً، أما المتفحش فهو الذي جعل ذلك من سجيته وديدنه.
● أخيركم: خياركم وأفضلكم. (خير الناس من ينفع الناس).
● خُلُقًا: الخُلُق هو السجية والطبع الذي يصدر عنه الإنسان من أفعال وأقوال بسهولة ويسر، سواء كان ذلك خيراً أم شراً. والمقصود هنا الأخلاق الحسنة.

---

2. شرح الحديث:

ينقسم الحديث إلى جزأين:
الجزء الأول: وصف أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم (لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا)
هذا ثناء من الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو على خلقه صلى الله عليه وسلم، وهو يصف جانباً من أخلاقه العظيمة، ألا وهو البعد كل البعد عن الفحش والبذاءة. فالنبي صلى الله عليه وسلم:
● لم يكن فاحشًا: أي لم يصدر منه قط كلمة بذيئة أو فعل قبيح، حتى في لحظات الغضب أو الشدة.
● ولا متفحشًا: أي لم يكن متساهلاً في هذا الأمر، ولم يكن من طبيعته التلفظ بالبذاءات أو مجاراة من يتكلم بها، بل كان بعيداً عنها كل البعد.
وهذا الوصف يتوافق مع ما وصفه الله تعالى به في القرآن: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. وكان خلقه القرآن، يأتمر بأمره وينزجر عن زجره.
الجزء الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن من أخيركم أحسنكم خلقًا)
هذا هو الهدي النبوي الذي يربط بين الخيرية الكاملة وحسن الخلق. فهو صلى الله عليه وسلم يقرر قاعدة عظيمة وهي:
- أن معيار التفاضل بين المؤمنين والتقييم الحقيقي لهم لا يكون بالمال، ولا بالجمال، ولا بالقوة، ولا بالمنصب، وإنما يكون بحسن الخلق.
- "من أخيركم" أفعل تفضيل، تدل على أن أحسن الناس أخلاقاً هو أقربهم إلى منزلة الخيرية والكمال الإيماني.
- وحسن الخلق هنا يشمل جميع التعاملات: مع الله بطاعته، ومع الرسول باتباعه، ومع الخلق بالصدق والأمانة والكرم والصبر والعفو والحلم، وحسن الصحبة للزوجة والأولاد والجيران، وغير ذلك من مكارم الأخلاق.

---

3. الدروس المستفادة والعبر:

1- الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم: يجب على المسلم أن يتخلق بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، ويبتعد عن الفحش والبذاءة في القول والفعل، فهذا من كمال الإيمان.
2- مقياس القيمة الحقيقية: الإسلام يرفع من قيمة الأخلاق ويجعلها المقياس الحقيقي لتقدم الإنسان ورقيه، وليس الماديات والمظاهر.
3- حسن الخلق طريق إلى الجنة: كما في الحديث الآخر: «أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق» (رواه الترمذي وهو حسن). وحسن الخلق يثقل ميزان العبد يوم القيامة.
4- الترابط بين الإيمان والأخلاق: لا يمكن فصل الأخلاق عن الدين، فالدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين.
5- السعي لتزكية النفس: يحثنا الحديث على مجاهدة النفس وتدريبها على التحلي بمكارم الأخلاق والتخلي عن الرذائل.

---

4. معلومات إضافية:

- هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الأدب، باب «لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا»، ورواه مسلم أيضاً. مما يدل على عظم مكانته وصحته.
- كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه بحسن الخلق، كما في الدعاء المأثور: «واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت» (رواه مسلم).
- من أعظم صور حسن الخلق: الكلمة الطيبة، والبشاشة، والصبر على الأذى، والعفو عند المقدرة، وكظم الغيظ.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يحسن أخلاقنا كما أحسن خلقنا، وأن يرزقنا الاقتداء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في كل أمرٍ من أمورنا.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.