فضل الصدق واجتناب الكذب وصفات المؤمنين

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
فأقدم لكم شرحًا وافيًا لهذا الحديث النافع، الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، معتمدًا على كلام أهل العلم المعتبرين.

---

نص الحديث:

عن أوسط بن إسماعيل البجلي أنه سمع أبا بكر الصديق رضي الله عنه، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقامي هذا عام الأول، ثم بكى أبو بكر، ثم قال: «عليكم بالصدق، فإنه مع البر، وهما في الجنة، وإياكم والكذب، فإنه مع الفجور، وهما في النار، وسلوا الله المعافاة، فإنه لم يؤت أحد بعد اليقين خيرا من المعافاة، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا».

---

1. شرح المفردات:

* قام رسول الله ﷺ في مقامي هذا عام الأول: أي وقف النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المكان نفسه (المنبر) في العام الماضي يخطب بالناس.
* مع البر: البر هو اسم جامع لكل خير وطاعة وفضيلة، وهو ضد الإثم.
* مع الفجور: الفجور هو الخروج عن طاعة الله، وهو اسم جامع لكل معصية وشر.
* المعافاة: السلامة من الآفات والمصائب في الدين والدنيا، والنجاة من الشرور والأمراض والفتن.
* بعد اليقين: اليقين هنا هو الإيمان الراسخ الجازم بالله ورسوله واليوم الآخر.
* تحاسدوا: الحسد هو تمني زوال النعمة عن الآخرين.
* تباغضوا: البغض هو الكراهية والشحناء في القلوب.
* تقاطعوا: القطيعة هي هجر المسلم لأخيه وعدم الكلام معه.
* تدابروا: التدابر هو الإعراض والتولي، بحيث يصبح كل واحد يدبر عن الآخر ويعرض عنه.

---

2. شرح الحديث:

يحدثنا الصحابي الجليل أبو بكر الصديق رضي الله عنه، في لحظة عاطفية جياشة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، مستذكرًا موقفًا للنبي وهو يخطب على المنبر. ثم يوجه الأمة بوصايا جامعة تتعلق ببناء المجتمع المسلم الفاضل:
* الوصية الأولى: الصدق والتحذير من الكذب:
يربط أبو بكر رضي الله عنه بين الصدق والبر، فهما متلازمان يصعدان بصاحبهما إلى الجنة. والصدق ليس فقط في القول، بل في النية والعمل والعهد. ويحذر من الكذب الذي هو قرين الفجور، وهما متلازمان يهويان بصاحبهما إلى النار. وهذا ترسيخ لأهم أساسيات بناء الثقة بين أفراد المجتمع.
* الوصية الثانية: الدعاء بطلب المعافاة:
يبين أبو بكر رضي الله عنه أن أعظم نعمة ينعم الله بها على العبد بعد نعمة الإيمان واليقين هي نعمة المعافاة في الدين والدنيا. فالمعافاة في الدين هي السلامة من البدع والضلالات والفتن، والمعافاة في الدنيا هي السلامة من الأمراض والبلاء. وهي نعمة عظيمة لا يشعر بقيمتها إلا من فقدها.
* الوصية الثالثة: إصلاح ذات البين ووحدة الصف:
ينهى أبو بكر رضي الله عنه عن كل ما من شأنه أن يهدم كيان المجتمع المسلم ويفرق جماعته:
* لا تحاسدوا: لأن الحسد يدفع إلى إيذاء الآخرين وإفساد العلاقات.
* لا تباغضوا: لأن البغض يمحق المودة والأخوة.
* لا تقاطعوا: لأن القطيعة تحرم المسلم من أخيه وتضعف الأمة.
* لا تدابروا: لأن الإعراض يزيد الشقة ويقوي الفرقة.
ثم يختم بوصية جامعة: «وكونوا عباد الله إخوانا»، فهذا هو الهدف الأسمى: أن يكون المجتمع كالجسد الواحد، يربطه حبل الإيمان والأخوة في الله.

---

3. الدروس المستفادة منه:

1- مكانة الصدق: أن الصدق منجاة وهو أساس صلاح القلب والعمل، وأن الكذب مهلكة وهو أساس كل شر.
2- قيمة نعمة العافية: يجب على المسلم أن يحرص على دعاء الله بالمعافاة في جميع أموره، وأن يشكر الله على هذه النعمة العظيمة التي تلي نعمة الإيمان.
3- خطورة أمراض القلوب: الحسد والبغض من الأمراض القلبية الخطيرة التي تفتت المجتمع وتقضي على الأخوة.
4- تحريم القطيعة والإعراض: يحرم على المسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث إلا لسبب شرعي، وأن إصلاح ذات البين من أعظم الطاعات.
5- وحدة الأمة: أن الأخوة الإيمانية هي الرابطة الحقيقية بين المسلمين، وهي التي يجب أن تطغى على كل الخلافات والصراعات الدنيوية.
6- دور القائد: من واجب القادة والعلماء تذكير الأمة بهذه القيم العظيمة، خاصة في أوقات المحن والفتن، كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

* يظهر هذا الحديث الورع العظيم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وحبه للنبي صلى الله عليه وسلم وتأسيه بسنته، حيث استذكر موعظة النبي وهو في أشد لحظات الحزن على فراقه.
* هذا الحديث هو دستور أخلاقي كامل لإقامة مجتمع متماسك قائم على المحبة والتعاون والتكافل.
* ينبغي للمسلم أن يجعل هذه الوصايا نبراسًا له في تعامله مع أهله وجيرانه وإخوانه في الدين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.