النبي ﷺ لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصلِّ فيه

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله.
أهلاً وسهلاً بك أيها السائل الكريم، وأشكرك على حرصك على فهم سنة نبينا محمد ﷺ. هذا الحديث الذي ذكر يحمل مسألة فقهية مهمة تتعلق ببيت الله الحرام، وسأشرحه لك شرحاً وافياً مستنداً إلى كلام أهل العلم المعتبرين.
### أولاً. تخريج الحديث ومصدره
هذا الحديث رواه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب "الحج"، باب "ما جاء في دخول الكعبة"، وهو من رواية التابعي الجليل عطاء بن أبي رباح عن الصحابي عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.

### ثانياً. شرح المفردات
* أُمِرْتُم بالطواف: خُوطبتم وأوجب عليكم الطواف حول الكعبة (وهو ركن من أركان الحج والعمرة).
* وَلَمْ تُؤْمَرُوا بِدُخُولِه: لكن لم يُفرض عليكم دخول الكعبة نفسها، فهو سنة وليس فرضاً.
* نَوَاحِيه: جوانبه ودعا في كل اتجاه من اتجاهاته.
* رَكَعَ: صلى ركعتي الطواف (أي صلاة السنة بعد الطواف).
* فِي قُبُلِ الْبَيْت: أمام الكعبة، في الجهة التي تستقبلها، وهي المقصود بها "الحِجْر" أو "المطاف".
* هَذِهِ الْقِبْلَة: أي أن استقبال عين الكعبة (أي التوجه نحوها بالكلية) ليس شرطاً في الصلاة، بل استقبال جهتها كافية، والصلاة في الحرم كله جائزة.

### ثالثاً. المعنى الإجمالي للحديث
يبدأ الحديث بسؤال ابن جريج (وهو تابعي) للإمام عطاء بن أبي رباح (وهو من كبار فقهاء مكة) عن قول ابن عباس: "إنما أُمِرْتُم بالطواف، ولم تؤمروا بدخوله". أي أن الله تعالى فرض على الحجاج والمعتمرين الطواف *حول* الكعبة، ولكن دخول *جوف* الكعبة نفسه ليس فرضاً ولا ركناً، بل هو أمر مستحب لمن تيسر له ذلك.
ثم يوضح عطاء أن ابن عباس رضي الله عنهما لم يكن ينهى عن دخول الكعبة، بل كان يبيّن أن الأصل هو الطواف. ويستدل عطاء على ذلك بفعل النبي ﷺ، حيث يروي أن أسامة بن زيد رضي الله عنه أخبر ابن عباس: أن النبي ﷺ عندما دخل الكعبة في عام الفتح، قام يدعو الله في جميع جوانبها الداخلية، ولكنه لم يصلِّ فيها. فلما خرج منها، صلى الركعتين (سنة الطواف) في المطاف، أمام الكعبة، وقال: «هذه القبلة»، أي أن الصلاة هنا (خارج الكعبة) هي الموضع المشروع للصلاة بعد الطواف.
ويؤكد عطاء أن دعاء النبي ﷺ كان في كل جهة من جهات البيت (شمال، جنوب، شرق، غرب) وليس فقط في زواياه الأربع.

### رابعاً. الدروس المستفادة والفقه في الحديث
1- بيان أن دخول الكعبة ليس فرضاً: هذا الحديث أصل في أن دخول الكعبة ليس بواجب في الحج أو العمرة، بل الفرض هو الطواف حولها. وهذا هو قول جمهور العلماء (الشافعية، والحنابلة، والمالكية). وقال أبو حنيفة: إن دخولها واجب على القادر إذا أمكن، ولكن الراجح قول الجمهور لتصريح الحديث بأننا لم نؤمر به.
2- مشروعية الدعاء داخل الكعبة: يستحب لمن دخل الكعبة أن يدعو الله تعالى في نواحيها كلها، متوجهاً إلى الجهات الأربع، اقتداءً بالنبي ﷺ. والدعاء في هذا المكان المشرف مجاب بإذن الله.
3- أن صلاة الطواف لا تُصلّى داخل الكعبة: السنة أن تصلى ركعتا الطواف خارج الكعبة، في المقام أو في أي مكان من الحرم. وعلل العلماء ذلك بأن الصلاة في جوف الكعبة تستلزم استقبال جميع الجهات، وهو خلاف الأصل في الصلاة التي يجب أن يكون لها اتجاه واحد محدد (القبلة). وقول النبي ﷺ: «هَذِهِ الْقِبْلَة» توجيه إلى أن الصلاة تكون باستقبال جهة الكعبة، لا باستقبال عينها من الداخل.
4- التيسير ورفع الحرج: في قوله: «وَلَمْ تُؤْمَرُوا بِدُخُولِه» تيسير من الله تعالى على عباده، فدخول الكعبة قد لا يتيسر للجميع بسبب الزحام أو غيره، فلو كان فرضاً لشق على الناس.
5- اتباع السنة في كل شيء: فعل النبي ﷺ هو الأسوة والقدوة، فهو الذي دخل الكعبة ودعا فيها ولم يصل، فدل على أن الدعاء فيها مشروع والصلاة فيها غير مشروعة.

---

خامساً:

معلومات إضافية مفيدة
* دخول الكعبة اليوم يكون في أوقات محدودة وبإذن من المسؤولين، وغالباً ما يكون للزوار والمهتمين، وليس شرطاً لأداء مناسك الحج أو العمرة.
* الحديث يدل على تواضع النبي ﷺ وحرصه على بيان السنة، حيث صلى حيث يرى الناس جميعاً ليعلموا السنة.
* يستحب لمن دخل الكعبة أن يكبر ويهلل ويصلي على النبي ﷺ ويدعو بما شاء من خيري الدنيا والآخرة.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا الفهم في الدين، والاتباع لسنة سيد المرسلين، وأن يوفقنا لطاعته وطاعة رسوله ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم.