نهيتكم عن زيارة القبور فزورها

شرح الحديث:

شرح الحديث النبوي:
الراوي: هو الصحابي الجليل بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه، وهو من كبار الصحابة وفضلائهم.
أولاً: شرح المفردات:
● نهيتكم عن زيارة القبور: أي حرمت عليكم الذهاب إلى القبور.
● فزورها: أي فالآن زوروها، بعد أن كان النهي سابقًا.
● لحوم الأضاحي: هي اللحوم التي تُذبح في عيد الأضحى.
● فوق ثلاث: أي أكثر من ثلاثة أيام.
● فأمسكوا ما بدا لكم: أي فاحتفظوا بها وادخروها بقدر ما تشاؤون من الوقت.
● النبيذ: هنا المقصود هو نبيذ التمر أو الزبيب الذي لم يصل إلى درجة الإسكار.
● في سقاء: السقاء هو الوعاء المصنوع من الجلد.
● الأسقية: جمع سقاء، وهي كل الأوعية التي تُحفظ فيها الأشربة.
● مسكرًا: هو كل شراب خمر العقل وذهب به، سواء كان من العنب أو غيره.
ثانيًا: شرح الحديث:
ينقسم هذا الحديث إلى ثلاثة أحكام، بيّن فيها النبي صلى الله عليه وسلم نسخ الحكم الأول وإبداله بحكم جديد:
1- زيارة القبور: كان النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الإسلام قد نهى عن زيارة القبور؛ خشية أن يفتن المسلمون ويقعوا في شيء من أمر الجاهلية، من النياحة أو الاعتقادات الفاسدة. فلما تمكن الإيمان في قلوب المؤمنين وعرفوا التوحيد، أذن لهم بزيارتها بل حثهم عليها، لأن فيها عبرةً تذكر بالآخرة، وتزهد في الدنيا، وتدعو إلى الاستعداد للقاء الله. فأصبحت الزيارة مشروعة للرجال والنساء، مع الالتزام بالآداب الشرعية كعدم الجلوس عليها، أو المشي بينها بالنعال، والدعاء للموتى.
2- ادخار لحوم الأضاحي: كان النهي الأول عن ادخار لحم الأضاحي لأكثر من ثلاثة أيام؛ لحكمة اجتماعية، وهي إكرام الضيف وإطعام الفقراء وعدم البخل بالخير، حتى لا يبقي صاحب الأضحية اللحم لنفسه ويحرم غيره. ثم نُسخ هذا الحكم وأباح النبي صلى الله عليه وسلم ادخارها لأي مدة يشاء صاحبها، فقال: (فأمسكوا ما بدا لكم). والحكمة في ذلك أن الناس توسع رزقهم وصار الخير كثيرًا، فلم تعد هناك حاجة لذلك النهي.
3- شرب النبيذ (غير المسكر): كان النهي عن صنع النبيذ (وهو عصير التمر أو الزبيب المنقوع في الماء) إلا في السقاء (الوعاء الجلدي)؛ لأن النبيذ إذا صُنع في الأوعية الأخرى كالظروف (أواني الفخار) أو الدّباء (القرع) فإنه يَتخمر بسرعة ويصير مسكرًا. فلما علم الصحابة أن العبرة بالإسكار وليس بنوع الوعاء، أباح لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يشربوا هذا النبيذ غير المسكر في أي وعاء، بشرط ألا يصل إلى حد الإسكار. فالحكم الثابت الذي لا نسخ فيه هو تحريم كل مسكر قليله وكثيره، من أي مادة كان، وفي أي وعاء كان.
ثالثًا: الدروس المستفادة والعبر:
1- مرونة الشريعة الإسلامية وسماحتها: حيث تراعي الشريعة حال الناس وتطور أوضاعهم، فتُنسخ بعض الأحكام المؤقتة بما هو أنفع للناس وأصلح لهم.
2- الحكمة من التشريع: كل حكم شرعي له حكمة ومقصد، إما جلب منفعة أو دفع مفسدة. فإذا زالت المفسدة أو تحققت المصلحة بشكل آخر، جاز تغيير الحكم.
3- التدرج في التشريع: من حكم الله تعالى أن شرع الأحكام بشكل تدريجي، لتهيئة النفوس لقبولها وعدم مفاجئتها بها.
4- تحريم المسكرات مطلقًا: التأكيد على أن الأصل تحريم كل ما أسكر من الخمور، وهو تحريم قاطع لا رخصة فيه، وأن الوسيلة إلى الحرام حرام.
5- استحباب زيارة القبور: للاعتبار والاتعاظ، وهي من الأمور التي تُذكّر بالآخرة وتُعين على الطاعة.
رابعًا: معلومات إضافية:
- هذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، وهو من الأحاديث الصحيحة.
- يدل الحديث على علم النبي صلى الله عليه وسلم بالغيب الذي أطلعه الله عليه، حيث أخبر عن أحكام ستنسخ قبل أن ينسخها.
- فيه رد على من أنكر نسخ الأحكام في الشريعة الإسلامية.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.