صفايا رسول الله الثلاث: بنو النضير وخيبر وفدك

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
حياكم الله و بياكم، وأسأل الله أن ينفعنا بما نسمع ونقول. هذا الحديث الذي ذكر رواه الإمام مسلم في صحيحه، وهو حديث عظيم يُبيّن حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في تدبير أمور المسلمين وموارد بيت المال، ويُظهر عدله ورحمته صلى الله عليه وسلم.

---

أولاً. شرح المفردات:

● الصفايا: جمع صَفِيّة، وهي ما يُصطفى للإمام أو الرئيس من الغنيمة أو الفيء قبل القسمة العامة، أي يُختار له خصيصاً لِمَا فيه مصلحة عامة.
● حبسا: أي حبساً ووقفاً لأجل وجه الله، لا يُباع ولا يُوهب، ويُصرف ريعه في المصارف المحددة.
● نوائبه: جمع نائبة، وهي الحوادث والمصائب والطوارئ التي تحل بالدولة أو المسلمين وتحتاج إلى إنفاق.
● أبناء السبيل: المسافرون المنقطع بهم الذين نفدت أموالهم وليس لديهم ما يعودون به إلى بلادهم.
● جزأها: قسمها.
● نفقة لأهله: ما يُنفق على عياله وأهل بيته صلى الله عليه وسلم.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يخبرنا الصحابي الجليل مالك بن أوس بن الحدثان رضي الله عنه أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه احتج في إحدى المسائل المتعلقة بمال الفيء بهذا المبدأ الذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخلاصة ما ذكره عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لديه ثلاث صفايا (أملاك خاصة خصصت للمصالح العامة):
1- بنو النضير: وهي أرض كانت لقبيلة يهود بني النضير في المدينة، وقد أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غدرهم، فصارت هذه الأرض فيءً للمسلمين. جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم حَبْساً (وقفاً) لنوائبه، أي لمواجهة الحوادث والطوارئ والمصالح العامة المفاجئة التي تعرض للدولة الإسلامية، كتجهيز الجيوش أو مواجهة مجاعة أو غير ذلك.
2- فدك: وهي قرية ذات بساتين ونخيل غنية، أهداها يهود فدك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلحاً دون قتال. فجعلها صلى الله عليه وسلم حَبْساً (وقفاً) لأبناء السبيل، أي يُصرف ريعها (أموالها وثمارها) في إعانة المسافرين المنقطع بهم الذين انقطعت بهم السبل وليس لديهم مال ليعودوا إلى أوطانهم.
3- خيبر: وهي أرض كبيرة ذات حصون وبساتين، فتحها المسلمون- قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء:
● جزءان: قسمهما بين المسلمين الغانمين الذين شاركوا في الغزو، فهذا هو حقهم في الغنيمة.
● جزءاً واحداً: جعله نفقة لأهله (أي لعياله وأهل بيته صلى الله عليه وسلم) ليكفيهم مؤونتهم ويحفظ لهم كرامتهم، حتى لا يشغلوا أنفسهم بالتكسب عن العبادة والعلم ونشر الدعوة.
● وما فضل عن نفقة أهله من هذا الجزء، لم يمسكه لنفسه، بل جعله بين فقراء المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم في سبيل الله، فكان عطاءً لهم وسداً لحاجتهم.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- حكمة القيادة وعدلها: يظهر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أعلى درجات الحكمة والعدل في توزيع الموارد العامة، بحيث توضع كل ثروة في مكانها المناسب الذي يحقق المصلحة العظمى للأمة.
2- نظام الوقف الإسلامي: الحديث أصل عظيم من أصول نظام الوقف في الإسلام، الذي هو صدقة جارية تنفع الناس في حياتهم الدنيا ويجري أجرها للواقف بعد موته.
3- العناية بفئات المجتمع: راعى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا التقسيم عدة فئات: الدولة ومصالحها العامة (بنو النضير)، والمسافرون المحتاجون (فدك)، وأهل بيته لئلا يكونوا عالة على الناس (جزء من خيبر)، والفقراء والمساكين من المهاجرين (فضل نفقة أهله).
4- زهد النبي صلى الله عليه وسلم وإيثاره: لم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه شيئاً زائداً عن حاجته الضرورية البسيطة، بل كان يعطي الفقراء والمحتاجين مما فضل عن حاجته وحاجة أهل بيته.
5- القدوة العملية: كان عمر رضي الله عنه يحتج بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ليبين أن سياسة المال العام يجب أن تكون قائمة على الشرع والحكمة والعدل، لا على الهوى والمصالح الشخصية.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

- هذه القصة كانت في سياق دفاع عمر رضي الله عنه عن قراره بعدم تقسيم أراضي العراق والسواد (أراضي الفرس المفتوحة) على الغانمين، بل جعلها وقفاً للمسلمين عامة، ليكون ريعها مصدراً دائماً لبيت المال ينفع الأجيال القادمة، مقتدياً في ذلك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في صفاويه.
- هذا الحديث من الأدلة على أن أموال النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن ملكاً شخصياً يتصرف فيه كيف يشاء، بل كانت أموالاً عامة للمسلمين، يتصرف فيها بمقتضى ولايته وإمامته بما فيه مصلحة الأمة.
أسأل الله أن يفقهنا في الدين، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا.
والله أعلم.