أبو بكر يحتمل ماله كله معه في الهجرة

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
حياكم الله و بياكم، وأسأل الله أن ينفعنا بما نسمع ونقرأ. هذا حديث عظيم من رواية الصحابية الجليلة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وهو يحكي موقفاً من مواقف الهجرة النبوية المباركة، ويجسد أروع معاني التضحية والفداء والحكمة. وسأشرحه لك جزءاً جزءاً بحول الله وقوته.

---

أولاً. شرح المفردات:

● احتمل أبو بكر ماله كله معه: أي جمعه وأخذه كاملاً.
● أبو قحافة: هو والد أبي بكر الصديق، واسمه عثمان بن عامر.
● فَجَعَكُم: أي أصابكم بالمصيبة والخسارة.
● كَوَّة البيت: نافذة صغيرة أو فتحة في الجدار توضع فيها الأشياء.
● أسكّن الشيخ: أي أهدئ من روعه وأطمئن قلبه.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يحدثنا هذا الحديث عن لحظة فارقة في تاريخ الإسلام، وهي هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه من مكة إلى المدينة.
1- التضحية العظيمة: قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو من أغنى أغنياء قريش، بجمع كل ماله وأخذه معه في رحلة الهجرة. لم يبقي لنفسه ولا لأهله شيئاً يذكر. هذه التضحية المادية الهائلة كانت لدعم الدعوة الإسلامية وتجهيز الرحلة، مما يدل على إيمانه العميق ويقينه بأن الله هو الرزاق.
2- موقف الجد الكفيف: جاء الجد أبو قحافة، وكان قد كف بصره، وهو قلق على مصير أحفاده. ظن أن ابنه أبا بكر قد ذهب بماله كله تاركاً أولاده في فاقة وحاجة، فقال بعبارة تعبر عن خوفه وحنوه: "إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه".
3- حكمة وذكاء أسماء: هنا تبرز حكمة وذكاء السيدة أسماء رضي الله عنها، والتي لُقبت بذات النطاقين. لم ترد أن يظل قلب grandfatherها قلقاً وحزيناً، ففكرت في حيلة ذكية لطمأنته. أخذت بعض الحجارة ووضعتها في مكان حفظ المال (الكوة)، وغطتها بثوب لتبدو ككومة من النقود.
4- الطمأنينة الكاذبة: ثم أخذت بيد grandfatherها وأجلستها على تلك "الكومة" المزيفة ليتحسسها ويظن أنها المال. فقال مطمئناً: "لا بأس، إن كان قد ترك لكم هذا، فقد أحسن، وفي هذا لكم بلاغ". أي أن هذا المال يكفيكم ويغنيشكم.
5- الحقيقة البطولية: ثم تخبرنا أسماء رضي الله عنها بالحقيقة بقولها: "ولا والله ما ترك لنا شيئًا، ولكني قد أردت أن أسكّن الشيخ بذلك". فما تركه أبو بكر كان مجرد حجارة، ولكنها كذبة بيضاء لغرض نبيل هو راحة قلب شيخ كبير وطمأنينته.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- التضحية في سبيل الله: الموقف يُجسد ذروة التضحية في سبيل نصرة الدين، حيث يقدم المرء كل ما يملك من مال ونفس طمعاً في رضا الله تعالى.
2- بر الوالدين والإحسان إليهما: تصرف أسماء رضي الله عنها هو نموذج رائع لبر الوالدين والإحسان إليهما، حتى لو كانا كافرين (فأبو قحافة كان لا يزال على كفره آنذاك)، وذلك بسد حاجتهما النفسية وطمأنينة قلوبهما وعدم إيذائهما.
3- جواز الكذب لغرض مشروع: هذا الحديث من الأدلة التي يستدل بها العلماء على جواز "الكذب الاضطراري" أو "الكذب للمصلحة" في حالات محدودة جداً، مثل:
- الإصلاح بين الناس.
- في الحرب (خداع العدو).
● إراحة قلب إنسان وطمأنينته كما فعلت أسماء، شريطة ألا يترتب على هذا الكذب ضرر أكبر، وأن تكون المصلحة فيه راجحة.
4- الحكمة والذكاء في التعامل: استخدام الذكاء والحكمة في حل المشكلات وتليين المواقف الصعبة، كما فعلت أسماء بحيلة بسيطة أوقفت قلق grandfatherها.
5- قوة اليقين والتوكل على الله: يتجلى في موقف أبي بكر وأهله؛ فترك كل ماله ولم يخف الفقر، لأنه يعلم أن الرزق بيد الله تعالى، وهو الذي سيخلف عليه.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

● ذات النطاقين: لُقبت أسماء بهذا اللقب لأنها عند تجهيزها للزاد للنبي صلى الله عليه وسلم وأبيها في رحلة الهجرة، لم تجد ما تربط به السقاء (قربة الماء) والزاد، فشقت نطاقها (حزامها) نصفين وربطت بهما، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الصنيع ودعا لها.
● إسلام أبو قحافة: أسلم أبو قحافة بعد ذلك في عام الفتح، وحسن إسلامه.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يرزقنا الإيمان والتضحية في سبيله، والحكمة في التعامل مع الآخرين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.