لو تركته ما زال قائمًا

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، وأسأل الله أن ينفعنا بما ندرس ونفهم من سنة نبيه الكريم.
الحديث الذي طلبت شرحه هو حديث صحيح رواه الإمام مسلم في صحيحه، وهو من أحاديث فضائل ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم التي تجلت فيها بركة الله تعالى بطريقة حسية ملموسة.
وفيما يلي الشرح المفصل له:

---

أولاً. شرح مفردات الحديث:

* أم مالك: هي امرأة من الأنصار، وقيل هي خالة الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، راوي الحديث.
* تهدي: تقدم هدية.
* عكّة: (بفتح العين وتشديد الكاف) وعاء من جلد يُخَزَّن فيه السمن أو العسل. وجمعها عُكَك.
* سمنًا: الدهن المستخرج من لبن الحيوان.
* بنوها: أولادها.
* الأدم: (بفتح الألف والدال) ما يؤكل مع الخبز من إدامٍ وطعام، كالسمن والزيت واللحم وغيرها. وسُمي إداماً لأنه يُؤدَمُ به الطعام أي يُغمس ويُبلَّل.
* فتجد فيه سمنًا: أي فتلجأ إلى تلك العكة فتكشفها فتُفاجأ بأن فيها سمنًا لم تضعه هي.
* يقيم لها أدم بيتها: أي يَكفيها ويفي بحاجة أهل بيتها من الإدام.
* حتى عصرتها: أي حتى استخرجت كل ما فيها من سمن بالعصر، فلم يبق فيه شيء.
* عصرتيها؟: استفهام للتأكد، أي: هل استخرجت كل ما فيها من سمن حتى جفَّت؟

---

ثانياً. شرح الحديث بإيجاز:

تكرّم هذه المرأة الصالحة (أم مالك) رضي الله عنها، فكانت تهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم السمن في وعاء خاص (العكة) تعرفه.
وفي إحدى المرات، جاءها أولادها جائعين يطلبون ما يأكلون به خبزهم (الأدم)، ولم يكن لديها شيء تعطيهم إياه. فذكرت الوعاء الذي كانت تهدي فيه للنبي صلى الله عليه وسلم، فذهبت إليه وفتحته على سبيل التجربة، فإذا هي تجد فيه سمنًا لم تضعها هي فيه!
فأخذت منه وأطعمت أولادها. ثم كلما احتاجت إلى السمن، وجدت في تلك العكة سمنًا يكفيها ويفي بحاجة بيتها، واستمر هذا الحال مدة من الزمن.
وفي النهاية، أرادت أن تنقل السمن إلى وعاء آخر أو أن تعصر العكة لتستخرج كل ما فيها، ففعلت ذلك حتى لم يبق فيها شيء.
ثم ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بقصة العكة، فسألها النبي صلى الله عليه وسلم تأكيداً: «عَصَرْتِيهَا؟» (أي استخرجت كل ما فيها؟)، فأجابت: نعم. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم موضحاً سبب انقطاع البركة: «لَوْ تَرَكْتِيهَا مَا زَالَ قَائِمًا»، أي لو أنك لم تعصريها وتستخرجي كل ما فيها، لاستمر وجود السمن فيها على الدوام ببركة دعائي وبركة هذه الصدقة.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- بركة الصدقة وهدية النبي صلى الله عليه وسلم: هذا الحديث من أعظم الأدلة على البركة الحسية التي كانت تحل في أمور النبي صلى الله عليه وسلم وما يتصل به، بسبب بركته صلى الله عليه وسلم وبركة الإيمان والصدقة. فالله تعالى جعل في ذلك الوعاء القليل بركة عظيمة مستمرة.
2- التأدب مع بركات الله: يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أدباً رفيعاً مع نعم الله وبركاته، وهو عدم الإسراف في استخراجها والاستقصاء في أخذها إلى آخر قطرة. ففي ترك شيء منها إيماء إلى الثقة بالله وحسن الظن به، وأن البركة منه سبحانه، وليس من جهد الإنسان وحده.
3- فضل الإهداء إلى الصالحين والعلماء: إن إهداء الإنسان للصالحين والمتقين وصلة أهل الخير، تجلب البركة في مال الإنسان وبيته، كما حصل لأم مالك رضي الله عنها.
4- حسن الظن بالله والثقة برزقه: الموقف يدعو إلى حسن الظن بالله تعالى، فالأم ذهبت إلى الوعاء الذي كانت تهدي فيه للنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التفاؤل وحسن الظن، فوفقها الله وجعل فيه رزقاً لها.
5- العبرة بالنتيجة لا بالسبب المادي: البركة ليست أمراً مادياً محسوباً، وإلا فكيف لوعاء فارغ أن يمتلئ بالسمن؟ إنها آية ومعجزة تظهر أن الأرزاق بيد الله تعالى، وهو الذي يجعل البركة حيث يشاء.
6- حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم أصحابه: لم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بالمعجزة، بل بيّن لها سبب زوالها ليتعلم الجميع أن البركة تحتاج إلى أدب وتوكل وحسن تعامل.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

* هذا الحديث من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم الحسية التي يؤيد الله بها رسوله، ويظهر فيها صدق نبوته، وتُعَدُّ من كرامات الأولياء لأنها حصلت لأم مالك بسبب تعلقها بالنبي صلى الله عليه وسلم بحب وهدية.
* يستدل العلماء بهذا الحديث على فضل الصدقة وكيف أنها لا تنقص المال، بل تزيده بركةً ونماءً.
* القصة تشير إلى فقر بعض الصحابة وكرمهم في نفس الوقت، فمع حاجتها كانت تهدي للنبي صلى الله عليه وسلم، فكافئها الله بالبركة المستمرة.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا بركة في الأوقات والأرزاق والأعمال