الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يفتح علينا من فضله. هذا حديث عظيم من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصاراً. وسأشرحه لك على النحو التالي، مستنداً إلى كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة:

---

الحديث بلفظه كما رواه الإمام البخاري في صحيحه:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «النَّاسُ مَعَادِنُ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا، تَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّ النَّاسِ كَرَاهِيَةً لَهُ حَتَّى يَقَعَ فِيهِ».

---

1. شرح المفردات:

* مَعَادِنُ: جمع مَعْدِن، وهو في الأصل المكان الذي تُستخرج منه الجواهر والنفائس كالذهب والفضة. شبه النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالمعادن في اختلاف طبائعهم وأخلاقهم وأصولهم، فمنهم النفيس كالذهب، ومنهم الخسيس كالحديد الرخيص.
* خِيَارُهُمْ: أفضلهم وأكثرهم فضيلة وخيراً.
* فَقُهُوا: هنا لا تعني مجرد حفظ المعلومات، بل تعني الفقه الحقيقي الذي هو الفهم العميق لأمور الدين، والعمل به، والتبصر فيه، وهو يشمل فهم الكتاب والسنة والفقه في الأحكام.
* هَذَا الشَّأْنِ: المقصود به شأن الإسلام وأمر الدعوة إليه وولاية أموره.
* حَتَّى يَقَعَ فِيهِ: أي حتى يدخل في الإسلام ويذوق حلاوته، فيصبح من أشد المدافعين عنه وأكثرهم غيرة عليه.

---

2. المعنى الإجمالي للحديث:

يبيّن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث حقيقة طبيعة البشر، فيقول:
إن الناس مختلفون في أصولهم وطبائعهم وأخلاقهم، كما تختلف المعادن في قيمتها وجوهرها. فمن كان ذا خلق كريم وشيم حميدة ونفس شريفة في حال جاهليته (قبل الإسلام)، فهو -إذا أسلم وأعطى الإسلام حقه من الفهم العميق والعمل الصالح- سيكون من خيار الناس وأفضلهم في الإسلام أيضاً، لأن الإسلام زكّى تلك الخصال الطيبة الأصلية فيه ووجهها الوجهة الصحيحة.
ثم يضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً عجيباً يؤكد هذه القاعدة، فيقول: إنك لتجد أن من يكون فيما بعد من خير الناس وأتقاهم وأشدهم حرصاً على دين الله، كان قبل إسلامه من أشد الناس عداوة وبغضاً للإسلام وتنفيراً منه، حتى إذا منَّ الله عليه بالهداية ووقع في الإسلام وذاق طعم الإيمان، انقلب ذلك العداء حماسةً وذلك البغض حباً، فأصبح من خيرة المسلمين.
وهذا إشارة إلى أن الخيرية كامنة في أصل طينته، لكنها كانت محجوبة بظلام الجاهلية، فلمّا أشرق عليها نور الإسلام، برزت وظهرت.

---

3. الدروس المستفادة والعبر:

1- الحث على التخلق بمكارم الأخلاق: الحديث يدل على أن الإسلام لا يهدم الأخلاق الحسنة الموجودة في الإنسان بل يهذبها ويوجهها لخدمة الدين، فالكرم والشجاعة والنخوة والصدق في الجاهلية تتحول إلى كرم في سبيل الله، وشجاعة في الجهاد، ونخوة في نصرة المظلوم، وصدق في التعامل مع الله والناس في الإسلام.
2- أهمية الفقه في الدين: الشرط الأساسي لاستمرار الخيرية هو الفقه (الفهم العميق للدين). فبدون الفقه، قد تضل تلك الطاقة والهمة عن الطريق الحق. وهذا يرفع مكانة طلب العلم الشرعي.
3- التفاؤل وعدم اليأس من هداية任何人: لا ينبغي للمسلم أن يقنط من هداية أي إنسان، ولو بلغت عداوته للاسلام مبلغاً عظيماً، فقد يكون في أصله خيرٌ عظيم، فإذا شرح الله صدره للإسلام كان من خيرة المؤمنين. وأعظم مثال على ذلك عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وأبو سفيان رضي الله عنهم أجمعين.
4- فهم سنن الله في الخلق: الناس ليسوا على درجة واحدة، بل هم متفاوتون في الخير والشر كتفاوت المعادن، وهذه سنة إلهية.
5- العدل وإنصاف الناس: ينبغي الحكم على الناس بأحوالهم الحاضرة بعد الفقه في الدين، لا بأحوالهم الماضية في الجاهلية.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

* مخرج الحديث: أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم) ومسلم في صحيحه.
* من الأمثلة التطبيقية البارزة على هذا الحديث:
* عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كان من أشد الناس على المسلمين في الجاهلية، فلما أسلم كان من أعز الإسلام وأقواهم في ذات الله.
* خالد بن الوليد رضي الله عنه: كان قائداً للمشركين في غزوة أحد، فلما أسلم أصبح "سيف الله المسلول" وأحد كبار قادة الفتوحات الإسلامية.
* الحارث بن هشام رضي الله عنه: كان من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أصبح بعد إسلامه من المجاهدين الأبرار.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل الفقه في دينه، وأن يهدينا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا هو، وصلى