من حفظ شيئًا من مقام النبي ﷺ فكأنما رأى وجه الرجل بعد نسيانه

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا حديث عظيم رواه الإمام البخاري في صحيحه، والإمام مسلم، وغيرهما، عن الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وهو من كبار الصحابة وأهل العلم والسر.

---

أولاً. شرح المفردات:

● قام فينا رسول الله ﷺ مقامًا: أي وقف فينا موقفًا وخطب فينا خطبة.
● ما ترك شيئًا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة: أي لم يترك أمرًا من أمور الغيب، أو فتنًا، أو أحداثًا ستقع من وقت خطبته حتى يوم القيامة.
● إلا حدث به: إلا وأخبر به وبيَّنه.
● حفظه من حفظه ونسيه من نسيه: فمن الصحابة من حفظ تلك الأحاديث كلها، ومنهم من نسى بعضها لطولها أو لكثرة تفاصيلها.
● قد علمه أصحابي هؤلاء: يشير إلى أن هذا العلم محفوظ عند جماعة من الصحابة، وليس هو الوحيد الذي سمعه.
● وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره: أي أن حذيفة نفسه قد ينسى بعض ما سمعه من النبي ﷺ، ثم إذا رأى ذلك الشيء واقعًا في الحياة (مثل فتنة أو علامة) تذكر الحديث النبوي الذي أخبر به.
● كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه: هذا تشبيه بليغ، فكما أن الإنسان إذا رأى صديقًا له بعد غياب يعرفه فورًا،كذلك عندما تقع أحداث الفتن التي أخبر عنها النبي ﷺ، يتذكر من سمع الحديث تلك النبوءة وكأنه يراها أمامه.

---

ثانيًا. المعنى الإجمالي للحديث:

يخبرنا الصحابي حذيفة رضي الله عنه أن النبي ﷺ وقف في أصحابه مرة فخطب فيهم خطبة جامعة، كانت بمثابة نبوءة شاملة عن مستقبل الأمة. لم يترك ﷺ أمرًا هامًا من أمور الغيب، أو فتنة، أو حادثة عظيمة ستحدث من ذلك الوقت حتى تقوم الساعة، إلا وذكرها وتكلم عنها بتفصيل ودقة.
بعض الصحابة حفظوا كل ما قاله النبي ﷺ في تلك الخطبة، وبعضهم نسِيَ بعضه بسبب طولها أو كثرة تفاصيلها. ويؤكد حذيفة أن هذا العلم ليس منحصرًا فيه، بل هناك جماعة من الصحابة يعلمونه.
ثم يضرب حذيفة مثلاً رائعًا لحالته الشخصية، فهو أحيانًا ينسى بعض التفاصيل، ولكن عندما يرى تلك الفتنة أو العلامة التي أخبر عنها النبي ﷺ تقع على أرض الواقع، يتذكر الحديث فورًا وكأنه يراه، تمامًا كما يتذكر الإنسان وجه صاحبه عندما يراه بعد فترة غياب.

---

ثالثًا. الدروس المستفادة والعبر:

1- كمال نبوة محمد ﷺ وصدقه: فالحديث دليل قاطع على أن النبي ﷺ يخبر بالغيب الذي لا يعلمه إلا الله، مما يثبت أنه رسول صادق مؤيد بالوحي.
2- عناية النبي ﷺ بأمته وتحذيره لها: لم يترك ﷺ أمته تائهة، بل رسم لها خريطة الطريق، وحذرها من الفتن والمحن قبل وقوعها، ليتخذ المؤمنون حذرهم ويستعدوا لها إيمانيًا وعمليًا.
3- حفظ الله لسنة نبيه ﷺ: البيان أن الله تعالى تكفل بحفظ هذا الدين، فجعل في الأمة من يحفظ علم النبي ﷺ وينقله، جيلاً بعد جيل. قول حذيفة "قد علمه أصحابي هؤلاء" دليل على أن العلم كان محفوظًا عند جماعة، وليس فردًا واحدًا، مما يمنع تحريفه أو ضياعه.
4- فضل الصحابة رضي الله عنهم: الحديث يظهر حرص الصحابة على حفظ العلم ونقله بدقة، وصدقهم في الرواية، حيث يصرح الواحد منهم بما نسيه وما حفظه.
5- أن الوقوع العملي للعلامات يذكر بالأحاديث: وهذا يدعونا دائمًا إلى مراجعة سنة النبي ﷺ وتذكير الناس بها، خاصة عندما نرى أحداثًا تشبه ما وصفه، فهي تزيد يقيننا بصدق نبوته.
6- التشبيه البليغ: استخدم حذيفة تشبيهًا رائعًا ليوضح فكرة تذكر الحديث عند وقوعه، مما يجعل المعنى واضحًا جدًا للسامع.

---

رابعًا. معلومات إضافية مفيدة:

● محتوى تلك الخطبة: يشير هذا الحديث إلى خطبة طويلة ذكر فيها النبي ﷺ الفتن وأشراط الساعة. وقد روى حذيفة نفسه許多 الأحاديث عن الفتن (مثل حديث "كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني")، والتي likely تكون جزءًا من هذا المقام العظيم.
● مكانة حذيفة: كان حذيفة رضي الله عنه ممن اهتموا بسؤال النبي ﷺ عن الشر والفتن ليتجنبه، وكان من كتمة أسرار النبي ﷺ، حتى إن النبي أسر إليه أسماء المنافقين.
● العبرة الحالية: في زمننا هذا،我们看到 الكثير من العلامات الصغرى للقيامة وقد وقعت، وكثير من الفتن التي أخبر عنها النبي ﷺ (مثل ظهور النساء الكاسيات العاريات، وتقارب الأسواق، etc.) نراها بأعيننا، فيجب أن تكون هذه الأحاديث نصب أعيننا، تزيدنا إيمانًا، وتحذرنا من الانزلاق في تلك الفتن.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يفقهنا في سنة نبيه ﷺ، وأن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.