إن الرجل ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
حياكم الله و بياكم، و نسأل الله تعالى أن يفتح لنا أبواب فضله وكرمه، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علما وفقها في الدين وارض عنا يا أكرم الأكرمين. هذا حديث عظيم من أحاديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، يوضح حكماً مهماً من أحكام الرضاع الذي تترتب عليه أحكام النسب من حيث الحرمة وحل الخلوة وغيرها.
وفيما يلي شرح وافٍ للحديث، مقسماً على النحو المطلوب:

---

1. شرح المفردات:

* أفلح أخو أبي القعيس: أفلح هو اسم الرجل، وأبو القعيس هو أخوه، والقعيس هو اسم لابن أبي القعيس، فيكون أبو القعيس كنية له.
* بعدما أنزل الحجاب: أي بعد نزول آية الحجاب التي أمرت نساء النبي ﷺ ومن بعده نساء المؤمنين بالحجاب وعدم إبداء الزينة إلا لمحارمهن.
* ليس هو أرضعني: أي أن أبا القعيس نفسه لم يكن هو الذي أرضعها بيده، فهو رجل.
* امرأة أبي القعيس: هي زوجة أبي القعيس، وهي التي أرضعت عائشة رضي الله عنها.
* عمك: أي هو بمثابة العم لك بسبب الرضاع.
* تربت يمينك: كلمة يقولها العرب للمؤنث تعجباً وتأكيداً للكلام، ومعناها: لزمتك التربة (أي الأرض) أو نعمت، أي هو عمك حقاً فلا تشكي في ذلك. وقيل معناها التوبيخ اللطيف على عدم معرفتها بالحكم، كقولهم: "ثكلتك أمك".

---

2. شرح الحديث:

* السياق والقصة: بعد أن نزل الحجاب وفرض على نساء النبي ﷺ وعامة المؤمنات، أصبح من المحرم على المرأة أن يراها أو يخلو بها إلا من المحارم (الأب، الابن، الأخ، العم، الخ...).
* موقف عائشة رضي الله عنها: جاء أفلح (وهو أخو أبي القعيس) يطلب الإذن للدخول على عائشة. فامتنعت عائشة رضي الله عنها عن الإذن له لأنها ارتبكت في درجة قرابته منها. كانت تعلم أن امرأة أبي القعيس (زوجة أخيه) هي مرضعتها، ولكنها شكت في أن يكون أخو زوج المرضعة (أفلح) محرماً لها بمجرد ذلك الرضاع. فاحترازاً لدينها، وأدباً مع رسول الله ﷺ، أرادت أن تستفتيه في هذه المسألة المستجدة.
* فتوى النبي ﷺ وتصحيحه للمفاهيم: عندما دخل عليها النبي ﷺ أخبرته بالخبر. فاستنكر ﷺ initially ترددها بقوله: «وما منعك أن تأذني لعمك؟»، معتبراً أن أفلح هو عمها. فلما بينت له سبب ترددها (أن الذي أرضعها هو المرأة وليس الرجل)، أزال اللبس وأكد لها الحكم بقوله: «ائذني له فإنه عمك تربت يمينك».
* الحكم الشرعي المستفاد: بيّن النبي ﷺ أن الرضاعة من امرأة أبي القعيس جعلت جميع أبناء زوجها (أبي القعيس) وإخوته (مثل أفلح) إخوة لها من الرضاع، وبالتالي يكون أفلح بمثابة العم لها. فكما أن أخا الأب (من النسب) يكون عماً، فأخو الأب من الرضاع يكون عماً أيضاً. فأصبح أفلح محرماً لها يحل لها أن تخلو به وتراه.

---

3. الدروس المستفادة منه:

1- الحذر والورع في الدين: موقف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يعلمنا الورع والاحتياط في أمور الدين، وخاصة في مسائل الحلال والحرام، وعدم التهاون فيها.
2- الأدب مع رسول الله ﷺ: لم تقدم عائشة على فعل شيء حتى تسأل وتستفتي من رسول الله ﷺ، وهذا أدب عظيم في طلب العلم ومعرفة الحكم الشرعي.
3- مساواة الرضاع للنسب في الأحكام: هذا الحديث أصل عظيم من أصول فقه الرضاع، وهو أن الحرمة التي تثبت بالرضاع هي نفسها التي تثبت بالنسب. فالأخ من الرضاع كالأخ من النسب، والعم من الرضاع كالعم من النسب.
4- أن الحرمة بالرضاع تثبت من جهة المرأة والرجل: يثبت حكم الرضاع من جهة زوج المرضعة (أبو القعيس) وأولاده وإخوته، فجميعهم يصيرون محارم للرضيع.
5- جواز خلوة المرأة بمحارمها من الرضاع: كما يجوز لها الخلوة بمحارم النسب.
6- حكمة التشريع: في تشريع حرمة الرضاع منعٌ لاختلاط الأنساب وحفظٌ للأعراض، وتوسيع لدائرة المحارم مما ييسر على المرأة في حياتها الاجتماعية.

---

4. أي معلومات إضافية مفيدة:

* قول عروة: قول الراوي عروة بن الزبير (وهو ابن أخت عائشة رضي الله عنها): "فلذلك كانت عائشة تقول: حرّموا من الرضاعة ما تحرّمون من النسب" هو من كلام عائشة نفسها تستدل بهذا الحديث على هذه القاعدة الكبرى، وهو قول جماهير العلماء من أهل السنة والجماعة.
* الفرق بين الرضاع والنسب: الرضاع يثبت به حرمة المصاهرة وحل الخلوة، ولكنه لا يثبت به حق الميراث أو النفقة، بخلاف النسب.
* شروط الرضاع المحرّم: يشترط العلماء لثبوت حرمة الرضاع أن يكون خمس رضعات مشبعات في الحولين (