أعتق رقبة أو صم شهرين أو أطعم ستين مسكينا

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإليك شرح هذا الحديث النبوي الشريف شرحًا وافيًا، مستندًا إلى كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.

---

نص الحديث:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل النبي ﷺ فقال: هلكت، وقعت على أهلي في رمضان، قال: «أعتق رقبة» قال: ليس لي، قال: «فصم شهرين متتابعين» قال: لا أستطيع، قال: «فأطعم ستين مسكينا» قال: لا أجد، فأتي بعرق فيه تمر - قال إبراهيم: العرق المكتل - فقال: «أين السائل، تصدق بها» قال: على أفقر مني؟ والله! ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا، فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه، قال: «فأنتم إذا».

---

1. شرح المفردات:

* هلكت: أي هلكت وخسرت ديني بسبب ما ارتكبت من إثم عظيم.
* وقعْتُ على أهلي: أي جامعت زوجتي.
* أعتق رقبة: أي حرر عبدًا أو أمة.
* العِرْق: هو القفة أو الوعاء الكبير المصنوع من الخوص أو الجلد، ويسمى أيضًا (المكتل).
* نَواجِذُه: جمع ناجذ، وهي آخر الأضراس في أقصى الفم. وقوله (حتى بدت نواجذه) يعني حتى ظهرت أضراسه من شدة الضحك، دلالة على سروره وفرحه ببراءة ذمة الرجل وصدقه.
* لابَتَيْها: اللابة هي الأرض ذات الحجارة السوداء (أرض المدينة المنورة)، والمقصود "ما بين لابتي المدينة" أي في جميع أنحاء المدينة.

---

2. شرح الحديث:

يصور لنا هذا الحديث موقفًا رائعًا يجمع بين عظمة التشريع الإسلامي ورحمة النبي ﷺ وحكمته.
* الوقوع في الذنب والندم: جاء رجل إلى النبي ﷺ في حالة من الخوف والندم الشديدين، بعد أن جامع زوجته في نهار رمضان متعمدًا، وهو يعلم أن هذا الفعل من الكبائر التي تُفطر الصائم وتتطلب كفارة مغلظة. قوله "هلكت" يدل على صدق توبته وخوفه من عقاب الله.
* تدرج النبي ﷺ في بيان الكفارة: شرع النبي ﷺ في بيان الكفارة الواجبة عليه، وهي كفارة الظهار، والتي هي على التخيير والترتيب:
1- التخيير: عتق رقبة (عبد أو أمة). وهذا هو الخيار الأول والأفضل.
2- الترتيب عند العجز: إذا لم يجد الرقبة، ينتقل إلى الخيار الثاني، وهو صيام شهرين متتابعين دون انقطاع.
3- الترتيب عند العجز مرة أخرى: إذا لم يستطع الصيام لمرض أو كبر سن أو مشقة شديدة، ينتقل إلى الخيار الثالث، وهو إطعام ستين مسكينًا، لكل مسكين نصف صاع من طعام (ما يعادل حوالي 1.5 كيلوغرام) من قوت البلد كالتمر أو الأرز.
* عجز الرجل وإظهار فقره: كان الرجل صادقًا مع نفسه ومع النبي ﷺ، فلم يدَّعِ القدرة على ما لا يستطيع، وأخبر بأنه لا يملك مالًا لعتق رقبة، ولا يستطيع الصيام (ربما لضعف في جسده أو عمل شاق)، ولا يجد طعامًا لإطعام الستين مسكينًا.
* الحل النبوي الرحيم: أُتي النبي ﷺ بطعام (قفة كبيرة من التمر) ليتصدق به على المساكين. فأمر النبي ﷺ بأن يعطى هذا الطعام لذلك الرجل نفسه ليتصدق به ويكفر عن ذنبه. وهذا من رحمة النبي ﷺ وحكمته؛ حيث وجد له مخرجًا شرعيًا يبرئ به ذمته.
* ردة فعل الرجل وضحك النبي ﷺ: تعجب الرجل من هذا الحل، وقال بكل صدق وبدوية: أأعطي هذا الصدقة لأفقر مني؟! وحلف بالله أنه لا يوجد في كل المدينة أهل بيت أفقر من أسرته. هذا القول الصادق الساخر من حاله أضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه.
* الحكم الشرعي النهائي: ضحك النبي ﷺ هنا ليس استهزاءً، بل هو ضحك سرور وفرح بصدق هذا الرجل وتيسير الله له. ثم قال له: «فأنتم إذا»، أي: إذا كنت أنت وأهلك بهذه الدرجة من الفقر والاحتياج، فخذ هذا التمر لنفسك وكُلْه أنت وعيالك، ويكون ذلك قد سقطت عنك الكفارة وحصل لك الأجر. فقد جعلك الله تعالى من المساكين الذين تجب عليهم الصدقة، فإطعامك لنفسك وأهلك هو إطعام للمساكين وتحقيق للكفارة.

---

3. الدروس المستفادة منه:

1- سعة رحمة الله تعالى: الحديث من أعظم الأدلة على سعة رحمة الله تعالى وتيسيره على عباده، وأنه ما جعل uponنا في الدين من حرج.
2- التيسير ورفع الحرج: الشرع الإسلامي يراعي ظروف الناس وقدراتهم، ويقدم لهم الحلول عند العجز.
3- صدق التوبة: أهمية الإسراع بالتوبة والندم على الذنب، والحرص على إبراء الذمة بأداء الكفارة.
4- حكمة النبي ﷺ ورفقه بأمته: يُظهر الموقف حلم النبي ﷺ وحكمته في التعامل مع أصحاب الزلات، وعدم تعنيفهم، بل البحث عن حلول لمشكلاتهم.
5- الصدق منجاة: كان صدق الرجل وصراحته سببًا مباشرًا في تيسير