الدخ، قال: «اخسأ».

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا الحديث الذي ذكر حديث صحيح، رواه الإمام مسلم في صحيحه، وسأشرحه لك بتفصيل وافٍ إن شاء الله.
الحديث بلفظه كاملاً:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن صائد: «قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا، فَمَا هُوَ؟» قَالَ: الدُّخُّ. قَالَ: «اخْسَأْ».

---

1. شرح المفردات:

● ابن صائد: هو رجل اسمه صافي، ويُكنى أبا سعيد، وكان يهودياً من أهل المدينة. وكان بعض الناس يظنون أنه الدجال في أول الأمر لوجود بعض العلامات الغريبة عليه، فاختبره النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الاختبار.
● خبأت: أي أخفيت وسترت.
● خبيئًا: الشيء المخبأ والمستور.
● الدخ: هو الدخان، وكان يقصد به الدخان العظيم الذي سيظهر من علامات الساعة الكبرى، قبل يوم القيامة، كما ذكر في القرآن: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} [الدخان: 10].
● اخسأ: كلمة طرد وإبعاد، بمعنى: ابتعد، انصرف، اسكت. وهي تقال لمن يُزجر ويُذم.

---

2. شرح الحديث:

السياق والقصة:
كان عبد الله بن صائد هذا شخصية مُحيِّرة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وُلد أعمى ثم بصُر، وكانت فيه أمور غريبة جعلت بعض الصحابة، بل حتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يظن في بداية الأمر أنه قد يكون الدجال الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكي يتحقق النبي صلى الله عليه وسلم من حقيقته ويميز أمره، اختبره بهذا الاختبار العجيب. فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد أخفى له شيئاً في نفسه (أي فكر في شيء في عقله ولم يَنطق به)، وسأله أن يعرف ما هو هذا الشيء المخفي، وذلك اختباراً لقدرته على معرفة الغيب، وهي إحدى صفات الدجال المزعومة التي يخدع بها الناس.
فأجاب ابن صائد: "هو الدخ"، يقصد الدخان. فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: "اخسأ"، أي انصرف واخسأ من حيث جئت، فأنت لست هو.
لماذا كانت الإجابة خاطئة؟
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قد خبأ في نفسه كلمة "الدخ" أو "الدخان"، بل كان قد خبأ شيئاً آخر. وفي رواية أخرى عند مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا» يعني قوله: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [سورة المرسلات]، أي أنه كان يفكر في هذه السورة الكريمة. فلم يستطع ابن صائد أن يعرف ما في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، مما دل على عجزه وعدم قدرته على ادعاء علم الغيب، وأنه ليس هو الدجال الحقيقي.

---

3. الدروس المستفادة والعبر:

1- الحكمة النبوية في الاختبار: يظهر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم حكمته العظيمة في التعامل مع الشبهات والأمور المحيرة، حيث لجأ إلى اختبار عملي يزيل اللبس ويحسم الأمر، بدلاً من التكهن أو التخمين.
2- علم الغيب لله وحده: هذا الحديث أصل عظيم في إثبات أن علم الغيب هو لله تعالى وحده، لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب، فمن ادعى علم الغيب من دون الله فهو كاذب أو دجال. وابن صائد فشل في الاختبار لأنه لا يعلم الغيب.
3- بطلان ادعاءات الدجالين: الدجال الأعور (المسيح الدجال) سيأتي بأمور خارقة يخدع بها الناس، كإخباره ببعض الأمور الغيبية (بمساعدة الشياطين)، ولكنها محدودة ومختلطة بالكذب، وليست كعلم الله المطلق. وهذا الاختبار يفضح محدودية وقصور أي مدعٍ لعلم الغيب.
4- التمييز بين الحق والباطل: على المسلم أن يكون فطناً وحذراً، ولا ينخدع بكل من ادعى معرفة الغيب أو جاء بشيء خارق، بل يعرض ذلك على كتاب الله وسنة نبيه.
5- الرد على المشككين: بعض أعداء الإسلام يستشهدون بهذا الحديث محاولين الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان يخبر بالغيب! وهذا جهل عظيم، فالحديث فيه دليل على عكس ذلك، فهو صلى الله عليه وسلم اختبره ليبين للناس أنه لا يعلم الغيب، وأن الذي في نفسه لا يعلمه إلا الله ثم من أطلعه الله عليه بوحي.

---

4. معلومات إضافية:

● مصير ابن صائد: أجمع العلماء على أن ابن صائد ليس هو الدجال الكبير الذي يخرج في آخر الزمان، بل هو دجال من الدجاجلة الصغار. وقد مات في زمن الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
● الفرق بين الدجال والدجالين: الدجال الأعور الحقيقي هو علامة من العلامات الكبرى للساعة، وهو أعور العين اليمنى، بينه عينه كعينة العنب الطافية، مكتوب بين عينيه "ك ف ر" يقرؤها كل مؤمن. أما غيره ممن يدعون العلم بالغيب أو يظهرون بعض الخوارق فهم دجاجلة صغار.
● الرواية الأخرى: في رواية للإمام مسلم أيضاً أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لابن صائد: "ويحك ماzaqn