لا آكله ولا أنهي عنه ولا أحرمه

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب. هذا الحديث العظيم يجمع بين قصة عملية وبيان لحكم شرعي مهم، وسأشرحه لك جزءاً جزءاً معتمداً على كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.
أولاً: شرح مفردات الحديث:
● عروس: أي شخص جديد العهد بالزواج، وهو الذي دعاهم إلى وليمة العرس.
● ضبًّا: حيوان بري معروف في الصحراء، من الزواحف، وكان بعض العرب يأكلونه في الجاهلية.
● فأكلٌ وتاركٌ: أي أن بعض الحضور أكل من لحم الضب، والبعض الآخر امتنع عن أكله.
● خِوانٌ: وهو طبق أو مائدة يوضع عليها الطعام.
● كفَّ يده: أي امتنع وأمسك يده عن الأكل.
ثانياً: شرح الحديث:
يحكي لنا الصحابي الجليل يزيد بن الأصم رضي الله عنه قصة دعوته إلى وليمة عرس، حيث قُدِّم للضيوف لحم الضب. ووقع الاختلاف بينهم؛ فبعضهم أكله وبعضهم تركه.
ثم يلتقي يزيد بن الأصم بالصحابي العالم الجليل، حبر الأمة وترجمان القرآن، عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في اليوم التالي، فيخبره بما حدث. وعندما سمع ابن عباس كلام بعض الحضور الذين استدلوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم (أي امتناعه عن الأكل) على تحريم لحم الضب، وأنه قال: «لَا آكُلُهُ، وَلَا أَنْهَى عَنْهُ، وَلَا أُحَرِّمُهُ»، غضب ابن عباس رضي الله عنهما من هذا الفهم الخاطئ، وأنكر عليهم إنكاراً شديداً.
وهنا تأتي الحكمة والبيان من ابن عباس رضي الله عنهما، حيث أوضح أمرين عظيمين:
1- أن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم هي البيان والشرع: فلم يبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم ساكتاً عن الحلال والحرام، بل بعثه مُحِلًّا للحلال مُحرِّماً للحرام، يبين للناس ما يسعهم فعله وما لا يسعهم. فكيف يُقال إنه لا يحرم شيئاً ولا ينهى عنه؟ هذا يتنافى مع أساس الرسالة.
2- روى القصة كاملةً ليبين حقيقة موقف النبي صلى الله عليه وسلم: حيث ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً عند زوجته ميمونة رضي الله عنها، ومعه ابن عمه الفضل بن عباس، وخالد بن الوليد، وامرأة أخرى. فقُدِّم لهم طبق عليه لحم، فلما همَّ النبي صلى الله عليه وسلم بالأكل، أخبرته ميمونة أن هذا لحم ضب- فكف النبي صلى الله عليه وسلم يده وامتنع عن الأكل وقال: «هَذَا لَحْمٌ لَمْ آكُلْهُ قَطُّ». ثم قال للآخرين: «كُلُوا»، فأكل منه الفضل وخالد والمرأة، أما ميمونة فامتنعت لأنها لا تأكل إلا مما يأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: الدروس المستفادة والفقه في الحديث:
1- حكم أكل لحم الضب: الصحيح الذي عليه جمهور العلماء (من الحنفية والشافعية والحنابلة) أنه حلال وليس حراماً، ودليلهم فعل الصحابة الذين أكلوه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالأكل. وأما امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عنه فليس للتحريم، بل للكراهة التنزيهية أو للعادة، كما صرّح هو بنفسه بقوله: «لَا آكُلُهُ، وَلَا أَنْهَى عَنْهُ، وَلَا أُحَرِّمُهُ». أي أنه لا يحبه ولا يعتاده، ولكنه لا يحرمه على من يشتهيه. وهذا من كمال أدبه صلى الله عليه وسلم، حيث لم يذم طعاماً قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه.
2- خطأ الاستدلال بفعل النبي صلى الله عليه وسلم على التحريم دون قول: هذا من أخطاء الفهم التي نبه عليها ابن عباس رضي الله عنه. فليس كل ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم أو امتنع عنه يكون حراماً، بل قد يكون مكروهاً أو غير معتاد. التحريم يحتاج إلى نص صريح بالنهي أو التحريم.
3- الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم: كما فعلت ميمونة رضي الله عنها، حيث امتنعت عن الأكل تأسياً به صلى الله عليه وسلم ومحبة له، وهذا من كمال محبتها له.
4- جرأة العالم في إنكار الخطأ والدفاع عن السنة: كما فعل ابن عباس رضي الله عنهما، حيث لم يسكت على الفهم الخاطئ للحديث، بل صححه وبيَّن الحكم الشرعي الصحيح.
5- جواز الأكل من طعام الوليمة ولو كان فيه شيء لا تأكله: كما أكل الصحابة مما قُدّم لهم، ولم يعيبوا على من قدمه.
رابعاً: معلومات إضافية مفيدة:
- هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وهو حديث صحيح.
- امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الضب وغيره من بعض الأطعمة (مثل الثوم والبصل) يدل على أن الأصل في الأطعمة الإباحة، وأن ترك الإنسان لشيء لا يعني تحريمه.
- الفقهاء الذين قالوا بالكراهة استدلوا بامتناع النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الكراهة هنا هي كراهة تنزيه (أي يكره但不 حرام)، خاصة لمن لم يعتده.
أسأل الله أن يزيدنا فهماً لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يعيننا على اتباعه ظاهراً وباطناً.